التفاسير

< >
عرض

وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا
٣٠
أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا
٣١
وَٱلْجِبَالَ أَرْسَاهَا
٣٢
-النازعات

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَـٰهَا } أي بسطَها ومهَّدها لسكْنى أهلِها وتقلبِهم في أقطارِها وانتصابُ الأرضَ بمضمرٍ يفسرُه دحاهَا { أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا } بأنْ فجرَ منها عيوناً وأجْرَى أنهاراً { وَمَرْعَـٰهَا } أي رعيَها وهو في الأصلِ موضعُ الرَّعِي وقيلَ: هو مصدرٌ ميميٌّ بمَعنى المفعولِ، وتجريدُ الجملةِ عن العاطفِ إما لأنَّها بـيانٌ وتفسيرٌ لدحاهَا وتكملةٌ له فإنَّ السكْنى لا تتأتَّى بمجرد البسطِ والتمهيدِ بلْ لا بدَّ من تسوية أمرِ المعاشِ من المأكلِ والمشربِ حتماً وإما لأنها حالٌ من فاعلِه بإضمارِ قدْ عندَ الجمهورِ أو بدونِه عند الكوفيـينَ والأخفشِ، كما في قولِه تعالى: { { أَوْ جَاءوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } [سورة النساء، الآية 90] { وَٱلْجِبَالَ } منصوبٌ بمضمرٍ يفسرُهُ { أَرْسَـٰهَا } أي أثبتَها وأثبتَ بها الأرضَ أن تميدَ بأهلِها وهذا تحقيقٌ للحقِّ وتنبـيهٌ على أنَّ الرسوَّ المنسوبَ إليهَا في مواضعَ كثيرةٍ من التنزيلِ بالتعبـيرِ عنها بالرَّوَاسِي ليسَ من مقتضياتِ ذواتِها بلْ هو بإرسائِه عزَّ وجلَّ ولولاهُ لما ثبتتْ في أنفسِها فضلاً عنْ إثباتِها للأرضِ وقُرِىءَ والأرضُ والجبالُ بالرفعِ على الابتداءِ ولعلَّ تقديمَ إخراجِ الماءِ والمَرْعى ذكراً مع تقدمِ الإرساءِ عليهِ وجُوداً وشدةِ تعلقِه بالدَّحْوِ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بأمرِ المأكلِ والمشربِ معَ ما فيهِ من دفعِ توهمِ رجوعِ ضميرَيْ الماءِ والمَرْعَى إلى الجبالِ وهذا كما ترَى يدلُّ بظاهرِه على تأخرِ دَحْوِ الأرضِ عن خلقِ السماءِ وما فيهَا كمَا يُروى عن الحسنِ مِنْ أنَّه تعالَى خلقَ الأرضَ في موضعِ بـيتِ المقدسِ كهيئةِ الفهرِ عليه دُخانٌ ملتزقٌ بها ثمَّ أصعدَ الدخانَ وخلقَ منهُ السمواتِ وأمسكَ الفهرَ في موضعِها وبسطَ منها الأرضَ وذلكَ قولُه تعالى: { { كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَـٰهُمَا } [سورة الأنبياء، الآية 30] الآيةَ وقد مرَّ في سورةِ حم السجدةِ أنَّ قولَه تعالَى: { { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِى خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِى يَوْمَيْنِ } [سورة فصلت، الآية 9] إلى قولِه تعالى: { { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَاء وَهِىَ دُخَانٌ } [سورة فصلت، الآية 11] الآيةَ إنْ حُملَ ما فيهِ من الخلقِ وما عطفَ عليهِ من الأفعالِ الثلاثةِ على معانيها الظاهرةِ لا على تقديرِها فهُو وما في سورةِ البقرةِ من قولِه تعالى: { { هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَى إِلَى ٱلسَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَـٰوَاتٍ } [سورة البقرة، الآية 29] يدلانِ على تقدم خلقِ الأرضِ وما فيها على خلق السماءِ وما فيها وعليه إطباقُ أكثرِ أهلِ التفسيرِ. وقد رُويَ أنَّ العرشَ كانَ قبلَ خلقِ السمواتِ والأرضِ على الماء ثم إنه تعالَى أحدثَ في الماء اضطراباً فأزبدَ فارتفعَ منه دخانٌ فأما الزبدُ فبقي على وجه الماءِ فخلقَ فيه اليبوسةَ فجعلَهُ أرضاً واحدةً ثم فتقَها فجعلها أَرضينَ وأما الدخانُ فارتفعَ وعلاَ فخلقَ منه السمواتِ ورُويَ أنَّه تعالى خلقَ جرمَ الأرضِ يومَ الأحدِ ويومَ الاثنينِ ودحاهَا وخلقَ ما فيها يومَ الثلاثاءِ ويومَ الأربعاءِ وخلقَ السمواتِ وما فيهن يومَ الخميسِ ويومَ الجمعةِ وخلقَ آدمَ عليه السلامُ في آخرِ ساعةٍ منه وهيَ الساعةُ التي تقومُ فيها القيامةُ فالأقربُ كما قيلَ تأويلُ هذه الآيةِ بأن يُجعلَ ذلكَ إشارةً إلى ذِكرِ ما ذُكِرَ من بناءِ السماءِ ورفعِ سَمكها وتسويتِها وغيرِها لا إلى أنفسِها ويحملُ بعديةُ الدَّحْوِ عنْها عَلى البعديةِ في الذكرِ كما هُو المعهودُ في ألسنة العربِ والعجمِ لا في الوجود لما عرفتَ من أنَّ انتصابَ الأرضِ بمضمرٍ مقدمٍ قد حُذِفَ على شريطةِ التفسيرِ لا بما ذُكِرَ بعدَهُ ليفيدَ القصرَ وتتعينَ البعديةُ في الوجودِ، وفائدةُ تأخيرِه في الذكرِ إما التنبـيهُ على أنَّه قاصرٌ في الدلالة على القدرة القاهرةِ بالنسبةِ إلى أحوالِ السماءِ وإما الإشعارُ بأنَّه أدخلُ في الإلزامِ لما أن المنافعَ المنوطةَ بما في الأرض أكثرُ وتعلقَ مصالحِ الناسِ بذلكَ أظهرُ وإحاطتَهم بتفاصيلِ أحوالِه أكملُ وليسَ ما رُويَ عن الحسنِ نصاً في تأخرِ دحوِ الأرضِ عن خلقِ السماءِ فإن بسطَ الأرضِ معطوفٌ على إصعادِ الدخانِ وخلقِ السماءِ بالواوِ التي هي بمعزلٍ من الدلالةِ على الترتيبِ، هذا على تقديرِ حملِ ما ذكرَ في آياتِ سورةِ السجدةِ من الخلقِ وما عطفَ عليهِ من الأفعالِ الثلاثةِ على معانيها الظاهرةِ وأما إذا حُملتْ على تقديرِها فلا دلالةَ فيها إلا على تقدمِ تقدير الأرضِ وما فيهَا على إيجاد السماءِ كما لا دلالةَ على الترتيب أصلاً إذا حُملتْ كلمةُ ثُمَّ فيها وفيمَا في سورةِ البقرةِ على التراخِي في الرتبةِ وقد سلفَ تفصيلُ الكلامِ في السورةِ المذكورةِ.