التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَٰناً وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
٢
ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
٣
أُوْلۤـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
٤
-الأنفال

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ } جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبـيان مَنْ أريد بالمؤمنين بذكر أوصافِهم الجليلةِ المستتبِعةِ لما ذكر من الخصال الثلاثِ، وفيه مزيدُ ترغيبٍ لهم في الامتثال بالأوامر المذكورةِ أي إنما الكاملون في الإيمان المخلِصون فيه { ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } أي فِزعت لمجرد ذكرِه من غير أن يُذكرَ هناك ما يوجب الفزَعَ من صفاته وأفعالِه واستعظاماً لشأنه الجليلِ وتهيباً منه وقيل: هو الرجلُ يُهمّ بمعصية فيقال له: اتقِ الله فينزِعُ عنها خوفاً من عقابه، وقرىء وجَلت بفتح الجيم وهي لغة وقرىء فرِقَتْ أي خافت { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } أيَّ آيةٍ كانت { زَادَتْهُمْ إِيمَـٰناً } أي يقيناً وطُمأنينةَ نفسٍ فإن تظاهُرَ الأدلةِ وتعاضُدَ الحُججِ والبراهينِ موجبٌ لزيادة الاطمئنانِ وقوة اليقين، وقيل: إن نفسَ الإيمانِ لا يقبل الزيادةَ والنقصانَ وإنما زيادتُه باعتبار زيادةِ المؤمَنِ به فإنه كلما نزلت صدّق بها المؤمنُ فزاد إيمانُه عداً، وأما نفسُ الإيمان فهو بحاله وقيل: باعتبار أن الأعمالَ تُجعل من الإيمان فيزيد بزيادتها، والأصوبُ أن نفسَ التصديقِ يقبل القوةَ وهي التي عبر عنها بالزيادة للفرق النيّر بـين يقينِ الأنبـياءِ وأربابِ المكاشفات ويقينِ آحادِ الأمةِ، وعليه مبنى ما قال علي رضي الله عنه: لو كُشف الغِطاءُ ما ازددتُ يقيناً، وكذا بـين ما قام عليه دليلٌ واحد وما قامت عليه أدلةٌ كثيرة { وَعَلَىٰ رَبّهِمْ } مالكِهم ومدبرِ أمورِهم خاصة { يَتَوَكَّلُونَ } يفوّضون أمورَهم لا إلى أحد سواه والجملةُ معطوفةٌ على الصلة، وقوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ } مرفوعٌ على أنه نعتٌ للموصول الأول أو بدلٌ منه أو بـيانٌ له أو منصوبٌ على القطع المنبىءِ عن المدح ذَكَر أولاً من أعمالهم الحسنةِ أعمالَ القلوب من الخشية والإخلاصِ والتوكل ثم عقّب بأعمال الجوارحِ من الصلاة والصدقة.

{ أُوْلَـٰئِكَ } إشارةٌ إلى من ذُكرت صفاتُهم الحميدةُ من حيث أنهم متصفون بها، وفيه دلالةٌ على أنهم متمِّيزون بذلك عمن عداهم أكملَ تميزٍ منتظمون بسببه في سلك الأمور المشاهدةِ، وما فيه من معنى البُعد للإيذان بعلو رتبتِهم وبُعدِ منزلتِهم في الشرف { هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } لأنهم حققوا إيمانَهم بأن ضمّوا إليه ما فصل من أفاضل الأعمالِ القلبـيةِ والقالَبـية، وحقاً صفةٌ لمصدر محذوفٍ، أي أولئك هم المؤمنون إيماناً حقاً، أو مصدرٌ مؤكدٌ للجملة أي حقَّ ذلك حقاً كقولك: هو عبدُ الله حقاً { لَّهُمْ دَرَجَـٰتٌ } من الكرامة والزُّلفىٰ وقيل: درجاتٌ عاليةٌ في الجنة، وهو إما جملةٌ مبتدأةٌ مبنيةٌ على سؤال نشأ من تعداد مناقبهم كأنه قيل: ما لهم بمقابلة هذه الخِصالِ؟ فقيل: لهم كيت وكيت أو خبرٌ ثانٍ لأولئك، وقوله تعالى: { عِندَ رَبّهِمْ } إما متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً لدرجاتٌ مؤكدةٌ لما أفاده التنوينُ من الفخامة الذاتيةِ بالفخامة الإضافيةِ أي كائنةٌ عنده تعالى أو بما تعلق به الخبرُ أعني لهم من الاستقرار، وفي إضافة الظرفِ إلى الرب المضافِ إلى ضميرهم مزيدُ تشريفٍ ولطفٍ لهم وإيذانٌ بأن ما وعد لهم متيقَّنُ الثبوتِ والحصولِ مأمونُ الفواتِ { وَمَغْفِرَةٌ } لما فرَط منهم { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } لا ينقضي أمدُه ولا ينتهي عددُه وهو ما أعد لهم من نعيم الجنة.