التفاسير

< >
عرض

وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِٱللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ ٱلْفُرْقَانِ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٤١
-الأنفال

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَٱعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم } عن الكلبـي أنها نزلت ببدر وقال الواقدي: كان الخُمسُ في غزوة بني قينُقاع بعد بدر بشهر وثلاثةِ أيامٍ للنصف من شوال على رأس عشرين شهراً من الهجرة، وما موصولةٌ وعائدُها محذوفٌ أي الذي أصبتموه من الكفار عُنوةً وأصلُ الغنيمة إصابةُ الغَنَم من العدو ثم اتُسع وأُطلق على كل ما أصيب منهم كائناً ما كان، وقوله تعالى: { مِن شَىْء } بـيانٌ للموصول محلُّه النصبُ على أنه حالٌ من عائد الموصول قصد به الاعتناءُ بشأن الغنيمة وأن لا يشِذّ عنها شيءٌ أي ما غنِمتموه كائناً مما يقع عليه اسمُ الشيءِ حتى الخيطُ والمَخيطُ خلا أن سلَبَ المقتولِ للقاتل إذا نفّله الإمامُ وأن الأسارىٰ يُخيَّر فيها الإمامُ وكذا الأراضي المغنومةُ، وقوله تعالى: { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ أي فحقٌّ أو واجب أن له تعالى خُمسَه، وهذه الجملةُ خبرٌ لأنما الخ وقرىء بالكسر والأوُلى آكَدُ وأقوى في الإيجاب لِما فيه من تكرر الإسنادِ كأنه قيل: فلا بد من ثبات الخُمس ولا سبـيل إلى الإخلال به، وقرىء فلله خُمسُه وقرىء خمْسَه بسكون الميم والجمهورُ على أن ذكرَ الله تعالى للتعظيم كما في قوله تعالى: { { وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [التوبة: 63] وأن المرادَ قسمةُ الخُمس على المعطوفِين عليه بقوله تعالى: { وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } وإعادةُ اللامِ في ذي القربى دون غيرِهم من الأصناف الثلاثة لدفع توهُّمِ اشتراكِهم في سهم النبـي صلى الله عليه وسلم لمزيد اتصالِهم به عليه الصلاة والسلام وهم بنو هاشمٍ وبنو المطلب دون بني عبدِ شمس وبني نَوْفل لما روي عن عثمانَ وجبـير بنِ مطعمٍ رضي الله عنهما أنهما قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هؤلاء إخوتُك بنو هاشم لا نُنكر فضلَهم لمكانك الذي جعلك الله منهم أرأيتَ إخوانَنا بني المطلب أعطيتَهم وحرمتنَا وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة فقال صلى الله عليه وسلم: "إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام إنما بنو هاشمٍ وبنو المطلب شيءٌ واحد" وشبّك بـين أصابعِه. وكيفيةُ قسمِتها عندنا أنها كانت في عهد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على خمسة أسهم، سهمٌ له عليه الصلاة والسلام وسهمٌ للمذكورين من ذوي قرباه، وثلاثةُ أسهمٍ للأصناف الثلاثة الباقية وأما بعده صلى الله عليه وسلم فسهمُه ساقطٌ وكذا سهمُ ذوي القُربى وإنما يعطَوْن لفقرهم فهم أسوةٌ لسائر الفقراء ولا يُعطي أغنياؤهم فيقسم على الأصناف الثلاثة، ويؤيده ما رُوي عن أبـي بكر رضى الله عنه أنه منع بني هاشمٍ الخمسَ وقال: إنما لكم أن يُعطى فقيرُكم وتُزوَّجَ أيِّمُكم ويخدَمَ من لا خادم له منكم. ومن عداهم فهو بمنزلة ابنِ السبـيل الغني لا يُعطىٰ من الصدقة شيئاً وعن زيد بن علي مثلُه قال: ليس بنا أن نبنيَ منه قصورا ولا نركَب منه البراذينَ وقيل: سهمُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم لوليّ الأمرِ بعده، وأما عند الشافعيِّرحمه الله فيقسم على خمسة أسهم: سهمٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم يُصرف إلى ما كان يصرِفه عليه الصلاة والسلام من مصالح المسلمين كعُدّة الغُزاة من الكُراعِ والسلاح ونحوِ ذلك، وسهمٌ لذوي القربى من أغنيائهم وفقرائِهم يُقسم بـينهم للذكر مثلُ حظ الأنثيـين والباقي للفِرَق الثلاث، وعند مالكرحمه الله الأمرُ فيه مفوَّضٌ إلى اجتهاد الإمامِ إن رأى قسمَه بـين هؤلاءِ وإن رأى أعطاه بعضاً منهم دون بعض وإن رأى غيرَهم أولى وأهمَّ فغيرُهم.

وتعلق أبو العالية بظاهر الآية الكريمة فقال: يُقسم ستةَ أسهمٍ ويُصرف سهمُ الله تعالى إلى رتاج الكعبة لما روي (أنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ منه قبضةً فيجعلها لمصالح الكعبة ثم يقسِمُ ما بقيَ على خمسة أسهمٍ) وقيل: سهمُ الله لبـيت المال وقيل: هو مضمومٌ إلى سهم الرسولِ عليه الصلاة والسلام هذا شأنُ الخمسِ وأما الأخماسُ الأربعةُ فتقسم بـين الغانمين للراجل سهمٌ وللفارس سهمان عند أبـي حنيفة رضى الله عنه وثلاثةُ أسهم عندهما رحمهما الله. قال القرطبـيُّ: لما بـين الله تعالى حكمَ الخمسِ وسكت عن الباقي دل ذلك على أنه ملك للغانمين وقوله تعالى: { إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُم بِاللهِ } متعلق بمحذوف ينبىء عنه المذكورُ أي إن كنتم آمنتم به تعالى فاعلموا أن الخمسَ من الغنيمة يجب التقربُ به إلى الله فاقطعوا أطماعَكم منه واقتنعوا بالأخماس الأربعة، وليس المرادُ به مجردَ العلم بذلك بل العلمَ المشفوعَ بالعمل والطاعةِ لأمره تعالى.

{ وَمَا أَنزَلْنَا } عطف على الاسم الجليل أي إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلناه { عَلَىٰ عَبْدِنَا } وقرىء عُبُدِنا وهو اسمُ جمعٍ أريد به الرسولُ عليه الصلاة والسلام والمؤمنون فإن بعضَ ما نزل نازلٌ عليهم بالذات كما ستعرفه { يَوْمَ ٱلْفُرْقَانِ } يوم بدرٍ سمي به لفَرْقه بـين الحقِّ والباطل، وهو منصوبٌ بأنزلنا أو بآمنتم { يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ } أي الفريقان من المؤمنين والكافرين وهو بدلٌ من (يومَ الفرقان) أو منصوبٌ بالفرُقان، والمرادُ ما أُنزل عليه عليه الصلاة والسلام يومئذٍ من الوحي والملائكةِ والفتحِ، على أن المرادَ بالإنزال مجردُ الإيصالِ والتيسير فينتظم الكلُّ انتظاماً حقيقياً، وجعلُ الإيمانِ بإنزال هذه الأشياءِ من موجبات العلم بكون الخُمس لله تعالى على الوجه المذكور من حيث أن الوحيَ ناطقٌ بذلك وأن الملائكةَ والفتحَ لمّا كانا من جهته تعالى وجب أن يكون ما حصل بسببهما من الغنيمة مصروفةً إلى الجهات التي عينها الله تعالى { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } يقدِر على نصر القليلِ على الكثير والذليلِ على العزيز كما فعل بكم ذلك اليوم.