التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمَلاۤئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ
٥٠
ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّٰمٍ لِّلْعَبِيدِ
٥١
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٥٢
-الأنفال

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَلَوْ تَرَى } أي ولو رأيتَ، فإن لو الامتناعيةَ تردّ المضارعَ ماضياً كما أن إنْ تردّ الماضيَ مضارعاً، والخطابُ إما لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحدٍ ممن له حظٌّ من الخطاب وقد مر تحقيقُه في قوله تعالى: { { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ } (سورة الأنعام، الآية 27) وكلمةُ إذ في قوله تعالى: { إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمَلَـئِكَةُ } ظرفٌ لترى والمفعولُ محذوفٌ أي ولو ترى الكفرةَ، أو حالَ الكفرةِ حين يتوفاهم الملائكةُ ببدر، وتقديمُ المفعولِ للاهتمام به، وقيل: الفاعلُ ضميرٌ عائدٌ إلى الله عز وجل، والملائكةُ مبتدأٌ وقوله تعالى: { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ } خبرُه، والجملةُ حالُ من الموصول قد استُغني فيها بالضمير عن الواو، وهو على الأول حالٌ منه أو من الملائكة أو منهما لاشتماله على ضميريهما { وَأَدْبَـٰرَهُمْ } أي وأستاهَهم أو ما أَقبل منهم وما أَدبر من الأعضاء { وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } على إرادة القولِ معطوفاً على يضربون أو حالاً من فاعله أي ويقولون أو قائلين: ذوقوا بشارةً لهم بعذاب الآخرة وقيل: كانت معهم مقامِعُ من حديد كلما ضَربوا التهبت النارُ منها، وجوابُ لو محذوفٌ للإيذان بخروجه عن حدود البـيانِ أي لرأيتَ أمراً فظيعاً لا يكاد يوصف.

{ ذٰلِكَ } إشارةٌ إلى ما ذكر من الضرب والعذابِ، وما فيه من معنى البُعد للإشعار بكونهما في الغاية القاصيةِ من الهول والفظاعةِ، وهو مبتدأٌ خبرُه { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } أي ذلك الضربُ واقعٌ بسبب ما كسبتم من الكفر والمعاصي، ومحلُّ أن في قوله: { وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ } الرفعُ على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي والأمُر أنه تعالى ليس بمعذب لعبـيده بغير ذنبٍ من قِبَلهم والتعبـيرُ عن ذلك بنفي الظلمِ مع أن تعذيبَهم بغير ذنب ليس بظلم قطعاً على ما تقرر من قاعدة أهل السنة فضلاً عن كونه ظلماً بالغاً قد مر تحقيقُه في سورة آل عمران، والجملُة اعتراضٌ تذيـيليٌّ مقرِّرٌ لمضمون ما قبلها، وأما ما قيل من أنها معطوفةْ على ما للدِلالة على أن سببـيته مقيدةٌ بانضمامه إليه إذ لولاه لأمكن أن يعذبَهم بغير ذنوبِهم فليس (ذلك) بسديد لما أن إمكانَ تعذيبِه تعالى لعبـيده بغير ذنب بل وقوعَه لا ينافي كونَ تعذيبِ هؤلاء الكفرةِ المعينة بسبب ذنوبِهم حتى يُحتاجَ إلى اعتبار عدمِه معه، نعم لو كان المدَّعىٰ كونَ جميعِ تعذيباتِه تعالى بسبب ذنوب المعذبـين لاحتيج إلى ذلك.

{ كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ } في محل الرفع على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ والجملةُ استئنافٌ مَسوقٌ لبـيان أن ما حل بهم من العذاب بسبب كفرِهم لا بشيء آخرَ، من جهة غيرِهم بتشبـيه حالِهم بحال المعروفين بالإهلاك بسبب جرائمِهم لزيادة تقبـيحِ حالِهم وللتنبـيه على أن ذلك سنةٌ مطردةٌ فيما بـين الأمم المهلَكةِ أي شأنُهم الذي استمروا عليه مما فعلوا وفُعل بهم من الأخذ كدأب آل فرعونَ المشهورين بقباحة الأعمالِ وفظاعةِ العذابِ والنكال { وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي من قبل آلِ فوعونَ من الأمم التي فعلوا من المعاصي ما فعلوا ولقُوا من العقاب ما لقُوا كقوم نوحٍ وعادٍ وأضرابِهم من أهل الكفر والعناد وقوله تعالى: { كَفَرُواْ بِـئَايَـٰتِ ٱللَّهِ } تفسيرٌ لدأبهم الذي فعلوه لا لدأب آلِ فرعونَ ونحوِهم كما قيل، فإن ذلك معلومٌ منه بقضية التشبـيهِ، وقوله تعالى: { فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ } تفسيرٌ لدأبهم الذي فُعل بهم، وإلقاءٌ لبـيان كونِه من لوازم جناياتِهم وتبعاتِها المتفرِّعةِ عليها، وقوله تعالى: { بِذُنُوبِهِمْ } لتأكيد ما أفاده الفاءُ من السببـية مع الإشارةِ إلى أن لهم مع كفرهم ذنوباً أُخَرَ لها دخلٌ في استتباع العقابِ، ويجوز أن يكون المرادُ بذنوبهم معاصيَهم المتفرِّعةَ على كفرهم فتكونُ الباءُ للملابسة أي فأخذهم متلبسين بذنوبهم غيرَ تائبـين عنها فدأبُهم مجموعُ ما فعلوا وفُعل بهم لا ما فعلوه فقط كما قيل. قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن آلَ فرعون أيقنوا أن موسى عليه السلام نبـيُّ الله فكذّبوه كذلك هؤلاء جاء محمدٌ صلى الله عليه وسلم بالصدق فكذبوه فأنزل الله تعالى بهم عقوبتَه كما أنزل بآل فرعونَ، وجعلُ العذابِ من جملة دأبِهم ـ مع أنه ليس مما يُتصوَّر مداومتُهم عليه واعتيادُهم إياه كما هو المعتبرُ في مدلول الدأبِ ـ إما لتغليب ما فعلوه على ما فُعل بهم أو لتنزيل مداومتِهم على ما يوجبه من الكفر والمعاصي منزلةَ مداومتِهم عليه لما بـينهما من الملابسة التامةِ، وقوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ قَوِىٌّ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله من الأخذ.