التفاسير

< >
عرض

إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
٥٥
ٱلَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ
٥٦
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي ٱلْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
٥٧
-الأنفال

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابّ } بعد ما شرَح أحوال المهلَكين من شرار الكَفَرة شرَع في بـيان أحوالِ الباقين منهم وتفصيلِ أحكامِهم.

وقوله تعالى: { عَندَ ٱللَّهِ } أي في حكمه وقضائه { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي أصروا على الكفر ولجّوا فيه، جُعلوا شرَّ الدوابِّ لا شرَّ الناسِ إيماءً إلى أنهم بمعزل من مجانستهم وإنما هم من جنس الدوابِّ ومع ذلك شرٌّ من جميع أفرادِها حسبما نطقَ به قوله تعالى: { إِنْ هُمْ إِلاَّ كَٱلأَنْعَـٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } (سورة الفرقان، الآية 44) وقوله تعالى: { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } حكمٌ مترتبٌ على تماديهم في الكفر ورسوخِهم فيه وتسجيلٌ عليهم بكونهم من أصل الطبع لا يَلْويهم صارفٌ ولا يثنيهم عاطفٌ أصلا جيء به على وجه الاعتراضِ لا أنه عطفٌ على كفروا داخلٌ معه في حيز الصلةِ التي لا حكمَ فيها بالفعل، وقوله تعالى: { ٱلَّذِينَ عَـٰهَدْتَّ مِنْهُمْ } بدلٌ من الموصول الأولِ أو عطفُ بـيانٍ له أو نصبٌ على الذم أي عاهدتَهم، ومِنْ للإيذان بأن المعاهدَة التي هي عبارةٌ عن إعطاء العهدِ وأخذه من الجانبـين معتبرةٌ هٰهنا من حيث أخذُه عليه الصلاة والسلام عهدَهم إذ هو المناطُ لقباحة ما نُعيَ عليهم من النقض لا إعطاؤُه عليه الصلاة والسلام إياهم عهدَه كأنه قيل: الذين أخذت منهم عهدَهم، وقيل: هي للتبعيض لأن المباشِرَ بالذات للعهد بعضُهم لا كلُّهم { ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ } عطفٌ على عاهدتَ داخلٌ معه في حكم الصلةِ، وصيغة الاستقبالِ للدِلالة على تجدّد النقضِ وتعدُّدِه وكونِهم على نيته في كل حالٍ، أي ينقضون عهدَهم الذي أخذتَه منهم { فِي كُلّ مَرَّةٍ } أي من مرات المعاهدةِ إذ هي التي يُتوقعُ فيها عدمُ النقضِ ويُستقبح وجودُه لا من مرات المحاربة كما قيل إذ لا يتوقع فيها عدمُ النقضِ بل لا يُتصور أصلاً حتى يُستقبَح فيها وجودُه لكونها مَظِنةً لعدمه، فلا فائدةَ في تقيـيد النقضِ بالوقوع في كل مرةٍ من مراتها بل لا صِحةَ له قطعاً لأن النقضَ لا يتحقق إلا في المرة الواردةِ على المعاهدة لا في المرات الواقعةِ بعدها بلا معاهدة، ولئن سلم أن المرادَ هي المراتُ الواقعةُ إثرَ المعاهدةِ يبقى النقضُ الواقعُ بلا محاربةٍ كبـيع السلاحِ ونحوه خارجاً من البـيان، ولئن عُدّ ذلك من المحاربة فلا محيصَ من لزوم خلوِّ الكلامِ عن الفائدة بالمرة لأن المحاربةَ بهذا المعنى عينُ النقضِ فيؤولُ الأمرُ إلى أن يقال: ينقضون عهدَهم في كل مرةٍ من مرات النقض، وحملُ المحاربةِ على محاربة غيرهِم ليكونَ المعنى ينقضون عهدَهم في كل مرة من مرات محاربة الأعداءِ مع كونه في غاية البُعد والركاكة يستلزِمُ خروجَ بدئِهم بالنقض من البـيان { وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ } حالٌ من فاعل ينقضون أي يستمرون على النقض والحالُ أنهم لا يتقون سُبّةَ الغدرِ ولا يبالون بما فيه من العار والنار، وقوله تعالى: { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ } شروعٌ في بـيان أحكامِهم بعد تفصيلِ أحوالِهم والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي فإذا كان حالُهم كما ذكر فإمّا تصادِفَنَّهم وتظفَرَنَّ بهم { فِى ٱلْحَرْبِ } أي في تضاعيفهم { فَشَرّدْ بِهِم } أي ففرِّقْ عن مناصبتك تفريقاً عنيفاً موجباً للاضطرار والاضطراب ونكِّلْ عنها بأن تفعل بهم من النِكاية والتعذيبِ ما يوجب أن تُنَكّل { مّنْ خَلْفِهِمْ } أي مَنْ وراءَهم من الكفرة، وفيه إيماءٌ إلى أنهم بصدد الحرب قريبٌ من هؤلاء، وقرىء شرِّذْ بالذال المعجمةِ، ولعله مقلوبُ شذِّر بمعنى فرق، وقرىء مِنْ خلفِهم أي افعلِ التشريدَ من ورائهم، والمعنى واحدٌ لأن إيقاعَ التشريد في الوراء لا يتحقّقُ إلا بتشريد مَنْ وراءَهم { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } يتعظون بما شاهدوا مما نزل بالناقضِين فيرتدعوا عن النقض أو عن الكفر.