التفاسير

< >
عرض

وَعِنَباً وَقَضْباً
٢٨
وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً
٢٩
وَحَدَآئِقَ غُلْباً
٣٠
وَفَاكِهَةً وَأَبّاً
٣١
مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ
٣٢
فَإِذَا جَآءَتِ ٱلصَّآخَّةُ
٣٣
يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ
٣٤
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ
٣٥
وَصَٰحِبَتِهِ وَبَنِيهِ
٣٦
لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ
٣٧
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ
٣٨
-عبس

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

وقوله تعالى: { وَعِنَباً } عطفٌ على حباً وليسَ من لوازم العطفِ أنْ يُقيدَ المعطوفُ بجميع ما قُيدَ به المعطوفُ عليه فلا ضيرَ في خُلوِّ إنباتِ العنبِ عن شقِّ الأرضِ { وَقَضْباً } أي رطبة، سُميتْ بمصدرِ قضَبهُ أي قطَعهُ مبالغةً كأنَّها لتكرر قطعِها وتكثرِه نفسُ القطعِ. { وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً } الكلامُ فيهما وفي أمثالِهما كما في العنبِ { وَحَدَائِقَ غُلْباً } أي عظاماً وصفَ به الحدائقُ لتكاثفها وكثرةِ أشجارِها أو لأنَّها ذاتُ أشجارٍ غلاظٍ مستعارٌ من وصفِ الرقابِ { وَفَـٰكِهَةً وَأَبّاً } أي مَرْعى من أبَّه إذَا أمَّه أي قصَدُه لأنَّه يُؤمُ ويُنتجعُ أو منْ أبَّ لكذَا إذا تهيأَ له لأنَّه متهيـىءُ للرَّعِي، أو فاكهةً يابسةً تؤبُ للشتاءِ. وعن الصدِّيقِ رضيَ الله عنْهُ أنَّه سُئلَ عن الأبِّ فقالَ: أيُّ سماءٍ تُظلِني، وأيُّ أرضٍ تُقِلَني إذَا قلتُ في كتابِ الله ما لاَ علَم لى بهِ. وعن عمرَ رضيَ الله عنْهُ أنَّه قرأَ هذه الآيةَ فقالَ: كلُّ هذا قد عرفَنا فَما الأبُّ ثم رفعَ عصاً كانتْ بـيدِه وقالَ: هَذا لعَمْرُ الله التكلفُ، وما عليكَ يا ابنَ أُمِّ عمرَ أنْ لا تدريَ ما الأبُّ ثم قالَ: اتبعُوا ما تبـينَ لكُم من هذا الكتابِ وما لاَ فدعُوه. { مَتَـٰعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَـٰمِكُمْ } إما مفعولٌ له أيْ فُعِلَ ذلكَ تمتيعاً لكُم ولمواشيكُم فإنَّ بعضَ النعمِ المعدودةِ طعامٌ لهم وبعضَها علفٌ لدوابِّهم. والالتفاتُ لتكميل الامتنانِ. وإمَّا مصدرٌ مؤكدٌ لفعله المضمرِ بحذفِ الزوائدِ، أي متعكُم بذلكَ متاعاً، أو لفعلٍ مترتبٍ عليهِ أي معكُم بذلك فتمتعتُم متاعاً أي تمتعاً كما مرَّ غيرَ مرةٍ، أو مصدرٌ من غير لفظهِ فإنَّ ما ذُكرَ من الأفعالِ الثلاثةِ في مَعْنى التمتيعِ.

{ فَإِذَا جَاءتِ ٱلصَّاخَّةُ } شروعٌ في بـيان أحوالِ معادِهم إثرَ بـيانِ مبدأِ خلقِهم ومعاشِهم. والفاءُ للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها من فُنون النعمِ عن قريب كما يشعرُ لفظُ المتاعِ بسرعة زَوَالِها وقربِ اضمحلالِها. والصاخةُ هي الداهيةُ العظيمةُ التي يصخُّ لها الخلائقُ أي يصيخونَ لها من صخَّ لحديثِه إذا أصاخَ له واستمعَ وصفتْ بها النفخةُ الثانيةُ لأنَّ الناسَ يصيخُونَ لها، وقيل هي الصيحةُ التي تصخُّ الآذانَ أي تصمَّها لشدةِ وقعِها، وقيلَ: هي مأخوذةٌ من صخَّهُ بالحجرِ، أي صكَّهُ. وقولُه تعالى: { يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْء مِنْ أَخِيهِ * وَأُمّهِ وَأَبِيهِ * وَصَـٰحِبَتِهُ وَبَنِيهِ } إما منصوبٌ بأعِني تفسيراً للصاخَّة أو بدلٌ منها مبنيٌّ على الفتحِ بالإضافةِ إلى الفعلِ على رَأي الكوفيـينَ، وقيلَ بدلٌ من إذَا جاءتْ كما مرَّ في قولِه تعالى: { { يَوْمَ يَتَذَكَّرُ } [سورة النازعات، الآية 35] الخ أي يعرضُ عنُهم ولا يصاحبُهم ولا يسألُ عن حالِهم كما في الدُّنيا لاشتغالِه بحالِ نفسِه، وأمَّا تعليلُ ذلكَ بعلمِه بأنَّهم لا يُغنونَ عنه شيئاً، أو بالحذرِ من مطالبتِهم بالتبعاتِ فيأباهُ قولُه تعالى: { لِكُلّ ٱمْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } فإنَّه استئنافٌ واردٌ لبـيانِ سببِ الفرارِ أي لكُلِّ واحدٍ من المذكورينَ شغلٌ شاغلٌ وخطبٌ هائلٌ يكفيِه في الاهتمامِ به، وأما الفرارُ حَذَراً من مطالبتِهم أو بُغضاً لهُم كَما يُروَى عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله تعالى عنهُمَا أنَّه يفرُّ قابـيلُ من أخيِه هابـيلَ، ويفرُّ النبـيُّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ منْ أُمِّه، ويفرُّ إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ من أبـيهِ، ونوحٌ عليهِ السَّلامُ من ابنِه، ولوطٌ عليهِ السَّلامُ من امرأتِه، فليسَ من قبـيلِ هذا الفرارِ. وكَذا مَا يُروَى أنَّ الرجلَ يفرُّ من أصحابِه وأقربائِه لئلاَّ يَروَه على ما هُو عليهِ من سُوءِ الحالِ. وقُرِىءَ يَعْنِيه بالياءِ المفتوحةِ والعينِ المُهملةِ، أي يُهمَّهُ من عناهُ الأمرُ إذا أهمَّه أي أوقعَهُ في الهمِّ ومنْهُ: "منْ حُسنِ إسلامِ المرءِ تركُه ما لا يَعنيه" لا من عناهُ إذا قصدَهُ كما قيلَ: وقولُه تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ } بـيانٌ لمآل أمرِ المذكورينَ وانقسامِهم إلى السعداءِ والأشقياءِ بعد ذكرِ وقوعِهم في داهيةٍ دهياءَ فوجوهٌ مبتدأٌ وإنْ كانتْ نكرةً لكونِها في حيزِ التنويعِ ومسفرةٌ خبرُهُ ويومئذٍ متعلقٌ به أي مضيئةٌ متهللةٌ منْ أسفرَ الصبحُ إذَا أضاءَ. وعن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُمَا أنَّ ذلكَ من قيامِ الليلِ. وفي الحديثِ: "مَنْ كثُرَ صلاتُه بالليلِ حسُن وجهُه بالنهارِ" . وعنِ الضحَّاكِ: منْ آثارِ الوضوءِ وقيلَ: من طولِ ما اغبرّتْ في سبـيلِ الله.