التفاسير

< >
عرض

وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ
١
ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ
٢
وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ
٣
-المطففين

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

مكية مختلف فيها، وآيُها ست وثلاثون

{ وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ } قيلَ: الويلُ شدةُ الشرِّ وقيلَ: العذابُ الأليمُ، وقيلَ: هو وادٍ في جهنمَ يهوي فيه الكافرُ أربعينَ خريفاً قبل أنْ يبلغَ قعَرهُ، وقيلَ وقيلَ، وأياً ما كانَ فهو مبتدأٌ وإنْ كان نكرةً لوقوعِه في موقعِ الدُّعاءِ. والتطفيفُ البخسُ في الكيل والوزنِ لأنَّ ما يُبخسُ شيءٌ طفيفٌ حقيرٌ. ورويَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قدَم المدينةَ وكانَ أهلُها من أخبثِ الناسِ كيلاً فنزلتْ فأحسنُوا الكيلَ. وقيلَ: قدمَها عليهِ الصلاةُ والسلامُ وبها رجلٌ يعرفُ بأبـي جهينةَ ومعه صاعانِ يكيلُ بأحدِهما ويكتالُ بالآخرِ، وقيلَ: كانْ أهلُ المدينةِ تجاراً يطففونَ وكانتْ بـياعاتُهم المنابذةَ والملامسةَ والمخاضرةَ فنزلتْ فحرجٍ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقرأَها عليهمُ وقالَ: "خمسٍ بخمسٍ ما نقصَ قومٌ العهدَ إلا سلَّط الله عليهم عدوَّهم وما حكمُوا بغيرِ ما أنزلَ الله إلا فشَا فيهم الفقرُ وما ظهرتْ فيهم الفاحشةُ إلا فشَا فيهم الموتُ ولا طففُوا الكيلَ إلا مُنِعوا النباتَ وأُخِذوا بالسنينَ ولا منعُوا الزكاةَ إلا حُبِس عنهم القطرُ" وقولُه تعالَى: { ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ } إلخ صفةٌ كاشفةٌ للمطففينَ شارحةٌ لكيفية تطفيفِهم الذي استحقُّوا بهِ الذمَّ والدعاءَ أي إذَا اكتالُوا منَ النَّاسِ مكيلَهم بحكمِ الشراءِ ونحوِهِ يأخذونَهُ وافياً وافراً وتبديلُ كلمةِ عَلَى بمِنَ لتضمينِ الاكتيالِ مَعْنى الاستيلاءِ أو للإشارةِ إلى أنَّه اكتيالٌ مضرٌّ بِهم لكنْ لاَ علَى اعتبارِ الضررِ في حيزِ الشرطِ الذي يتضمنُه كلمةُ إذَا لإخلالِه بالمَعْنى بلْ في نفسِ الأمرِ بموجبِ الجوابِ فإنَّ المرادَ بالاستيفاءِ ليسَ أخذَ الحقِّ وافياً من غيرِ نقصٍ بل مجردُ الأخذِ الوافِي الوافِر حسبما أرادُوا بأيِّ وجهٍ تيسرَ من وجوهِ الحيلِ وكانُوا يفعلونَهُ بكبسِ المكيلِ وتحريكِ المكيالِ والاحتيالِ في ملئهِ وأما ما قيلَ: من أنَّ ذلكَ للدلالةِ على أنَّ اكتيالَهُم لمَا لَهُم على النَّاسِ فمعَ اقتضائِه لعدمِ شمولِ الحكمِ لاكتيالِهم قبلَ أنْ يكونَ لهم على الناسِ شيءٌ بطريقِ الشراءِ ونحوِه معَ أنَّه الشائعْ فيما بـينَهم يقتضِي أنْ يكونَ معنى الاستيفاءِ أخذُ ما لهم عليهم وافياً من غيرِ نقصٍ إذْ هُو المتبادرُ منه عند الإطلاقِ في معرضِ الحقِّ فلا يكونُ مداراً لذمِّهم والدعاءِ عليهم وحملِ ما لهم عليهم على مَعْنى ما سيكونُ لهم عليهم مع كونِه بعيداً جداً مما لا يُجدي نفعاً فإنَّ اعتبارَ كونِ المكيلِ لهم حالاً كان أو مآلاً يستدعِي كونَ الاستيفاءِ بالمعنى المذكورِ حَتْماً وهكذا حالُ ما نُقلَ عنِ الفرَّاءِ من أنَّ مِنْ وعَلَى تعتقبانِ في هذا الموضعِ لأنَّه حقٌّ عليهِ فإذَا قال اكتلتُ عليكَ فكأنَّه قال أخذتُ ما عليكَ وإذا قالَ اكتلتُ منكَ فكقولِه استوفيتُ منكَ فتأملْ. وقد جُوِّز أنْ تكونَ على متعلقةً بـيستوفونَ ويكون تقديمُها على الفعلِ لإفادة الخصوصيةِ أي يستوفونَ على النَّاسِ خاصَّة فأما أنفسُهم فيستوفونَ لها وأنتَ خبـيرٌ بأنَّ القصرَ بتقديمِ الجارِّ والمجرورِ وإنما يكونُ فيما يمكنُ تعلقُ الفعلِ بغير المجرورِ أيضاً حسبَ تعلقِه به فيقصد بالتقديمِ قصرُه عليه بطريقِ القلبِ أو الإفرادِ أو التعيـينِ حسبما يقتضيهِ المقامُ، ولا ريبَ في أنَّ الاستيفاءَ الذي هو عبارةٌ عن الأخذ الوافي مما لا يتصورُ أن يكونَ على أنفسهم حَتَّى يقصد بتقديم الجارِّ والمجرورِ قصرُه على النَّاسِ على أنَّ الحديثَ واقعٌ في الفعلِ لا فيما وقعَ عليهِ فتدبرْ. والضميرُ البارزُ في قولِه تعالى { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ } للنَّاسِ أيْ إذ كالُوا لهم أو وزنُوا لهم للبـيعِ ونحوِه { يُخْسِرُونَ } أي ينقصونَ يقالُ خسِر الميزانَ وأخسرَهُ فحذفَ الجارَّ وأوصلَ الفعلَ كما في قولِه:

وَلَقَدْ جَنَيتُكَ أَكْمُؤاً وعَسَاقِلاً

أي جنيتُ لكَ، وجعلُ البارزِ تأكيداً للمستكنِّ مما لا يليقُ بجزالةِ التنزيلِ ولعلَّ ذكرَ الكيلِ والوزنِ في صورةِ الإخسارِ والاقتصار على الاكتيالِ في صورةِ الاستيفاءِ لما أنهم لم يكونوا متمكنينَ من الاحتيالِ عند الاتزانِ تمكنهم منه عند الكيلِ والوزنِ، وعدمُ التعرضِ للمكيلِ والموزونِ في الصورتينِ لأن مساقَ الكلامِ لبـيانِ سوءِ معاملتِهم في الأخذِ والإعطاءِ لا في خصوصيةِ المأخوذِ والمُعطَى.