التفاسير

< >
عرض

تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ
٥
لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ
٦
لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ
٧
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ
٨
-الغاشية

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ ءانِيَةٍ } أي متناهيةٍ في الحرِّ كما في قولِه تعالى: { { وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ } [سورة الرحمن، الآية 44] { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } بـيانٌ لطعامِهم إثرَ بـيانِ شرابِهم، والضريعُ يبـيسُ الشبرقِ وهو شوكٌ ترعاهُ الإبلُ ما دامَ رطباً وإذا يبسَ تحامتْهُ وهو سمٌّ قاتلٌ، وقيلَ: هي شجرةٌ ناريةٌ تشبهُ الضريعَ وقال ابنُ كيسانٍ: هو طعامٌ يُصرعونَ عندَهُ ويذلُّونَ ويتضرعونَ إلى الله تعالى طلباً للخلاصِ منه فسمِّيَ بذلكَ وهذا طعامٌ لبعضِ أهلِ النارِ، والزقومُ والغسلينُ لآخرينِ { لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِى مِن جُوعٍ } أي ليسَ من شأنِه الإسمانُ والإشباعُ كما هو شأنُ طعامِ الدُّنيا وإنما هُو شيءٌ يضطرونَ إلى أكلِه من غيرِ أنْ يكونَ له دفعٌ لضرورتِهم لكنْ لا على أنَّ لهم استعداداً للشبعِ والسمنِ إلا أنَّه لا يفيدُهم شيئاً منهمَا بلْ على أنَّه لا استعدادَ من جهتِهم ولا إفادةَ من جهةِ طعامِهم، وتحقيقُ ذلكَ أنَّ جوعَهُم وعطشَهُم ليسا من قبـيلِ ما هُو المعهودُ منهما في هذه النشأةِ من حالةٍ عارضةٍ للإنسانِ عندَ استدعاءِ الطبـيعةِ لبدلِ ما يتحللُ من البدنِ مشوقةً له إلى المطعومِ والمشروبِ بحيثُ يلتذُّ بهَا عندَ الأكلِ والشربِ ويستغنِي بهمَا عن غيرِهما عندَ استقرارِهما في المعدةِ ويستفيدُ منهما قوةً وسمناً عند انهضامِهما بلْ جوعُهم عبارةٌ عن اضطرارِهم عند اضطرامِ النارِ في أحشائِهم إلى إدخالِ شيءٍ كثيفٍ يملؤُها ويُخرجُ ما فيها من اللهبِ وأما أن يكونَ لهم شوقٌ إلى مطعومٍ ما أو التذاذٌ به عندَ الأكلِ واستغناءٌ به عن الغير أو استفادةُ قوةٍ فهيهاتَ وكذا عطشُهم عبارةٌ عن اضطرارهم عند أكلِ الضريعِ والتهابِه في بطونِهم إلى شيءٍ مائعٍ باردٍ يطفئُه من غيرِ أنْ يكونَ لهم التذاذٌ بشربه أو استفادةُ قوةٍ به في الجملة وهو المعنيُّ بما رُويَ أنه تعالَى يسلطُ عليهم الجوعَ بحيثُ يَضطرهُم إلى أكلِ الضريعِ فإذا أكلُوه يسلطُ عليهم العطشَ فيضطرهُم إلى شرب الحميمِ فيشوِي وجوهَهُم ويقطعُ أمعاءَهُم. وتنكيرُ الجوعَ للتحقيرِ أيْ لا يُغني من جوعٍ ما، وتأخيرُ نَفي الإغناءِ منْهُ لمراعاةِ الفواصلِ والتوسلِ به إلى التصريحِ بنفي كلا الأمرينِ إذ لو قُدمَ لما احتيجَ إلى ذكر نفي الإسمانِ ضرورة استلزامِ نفي الإغناءِ عن الجوعِ إيَّاه بخلاف العكسِ ولذلك كررَ لاَ لتأكيدِ النَّفي. وقولُه تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ } شروعٌ في روايةِ حديثِ أهلِ الجنةِ، وتقديمُ حكايةِ حالِ أهلِ النارِ لأنَّه أدخلُ في تهويلِ الغاشيةِ وتفخيمِ حديثِها، ولأنَّ حكايةَ حسنِ حالِ أهلِ الجنةِ بعدَ حكايةِ سُوءِ حالِ أهلِ النارِ مما يزيدُ المحكيَّ حُسناً وبهجةً والكلامُ في إعرابِ الجملةِ كالذي مرَّ في نظيرتِها، وإنما لم تُعطفْ عليها إيذاناً بكمالِ تباينِ مضمونَيهِما. ومعنى ناعمةٌ ذاتُ بهجةٍ وحسنٍ، كقولِه تعالى: { { تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ ٱلنَّعِيمِ } [سورة المطففين، الآية 24] أو متنعمةٌ.