التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ
١٨
وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً
١٩
وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبّاً جَمّاً
٢٠
كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ ٱلأَرْضُ دَكّاً دَكّاً
٢١
وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً
٢٢
وَجِيۤءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكْرَىٰ
٢٣
يَقُولُ يٰلَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي
٢٤
-الفجر

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَلاَ تَحَاضُّونَ } بحذفِ إحْدَى التاءينِ من تَتَحاضُّون أيْ لاَ يحضُّ بعضُكم بعضاً { عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } أي على إطعامِه. وقُرِىءَ تحاضونَ من المحاضةِ، وقُرِىءَ يَحُضُّونَ بالياءِ والتاءِ { وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ } أي الميراثَ وأصلُه ورِاثٌ { أَكْلاً لَّمّاً } أيْ ذَا لمٍ أي جمعٍ بـينَ الحلالِ والحرامِ فإنهم كانُوا لا يُورثونَ النساءَ والصيبانَ ويأكلونَ أنصباءَهم أو ويأكلونَ ما جمعَهُ المورثُ من حلالٍ وحرامٍ عالمينَ بذلكَ { وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبّاً جَمّاً } كثيراً معَ حِرص وشرَه. وقُرِىءَ ويُحبونَ بالياءِ.

{ كَلاَّ } رَدْعٌ لهمُ عن ذلكَ وقولُه تعالَى: { إِذَا دُكَّتِ ٱلأَرْضُ دَكّاً دَكّاً } الخ استئنافٌ جِىءَ به بطريق الوعيدِ تعليلاً للردعِ أيْ إذَا دكتِ الأرضُ دكاً متتابعاً حتى انكسرَ وذهبَ كلُّ ما عَلى وجهِها من جبالٍ وأبنيةٍ وقصورٍ حينَ زُلزلتْ وصَارتْ هباءً مُنبثاً وقيلَ: الدكُّ حطُّ المرتفعِ بالبسطِ والتسويةِ فالمَعْنى إذا سُويتْ تسويةً بعدَ تسويةٍ ولم يبقَ عَلى وجِها شيءٌ حَتَّى صارتُ كالصخرةِ الملساءِ، وأياً مَا كانَ فهو عبارةٌ عما عرضَ لها عند النفخةِ الثانيةِ { وَجَاء رَبُّكَ } أي ظهرتْ آياتُ قُدرتِه وآثارُ قهرهِ مثلَ ذلكَ بما يظهرُ عندَ حضورِ السلطانِ من أحكامِ هيبتِه وسياستِه، وقيلَ جاءَ أمرُهُ تعالَى وقضاؤُه على حذفِ المضافِ للتهويلِ.

{ وَٱلْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } أي مُصطفينَ أو ذَوِي صفوفٍ فإنه ينزلُ يومئذٍ ملائكةُ كلِّ سماءٍ فيصطفونَ صفاً بعدَ صفٍ بحسب منازلِهم ومراتبِهم مُحدقينَ بالجِنِّ والإنسِ.

{ وَجِىء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ } كقولِه تعالَى: { { وَبُرّزَتِ ٱلْجَحِيمُ } [سورة الشعراء، الآية 91] قال ابنُ مسعودٍ ومقاتلٌ تُقادُ جهنمُ بسبعينَ ألفَ زمامٍ كلُّ زمامٍ معه سبعونَ ألفَ مَلَكٍ يَجرونَها حتى تُنصبَ عن يسارِ العرشِ لها تغيظٌ وزفيرٌ وقد رَواهُ مسلمٌ في صحيحِه عن ابنِ مسعودٍ مَرْفُوعاً. { يَوْمَئِذٍ } بدلٌ مِنْ إذَا دكتْ والعاملُ فيهمَا قولُه تعالى: { يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَـٰنُ } أي يتذكرُ ما فرَّطَ فيهِ بتفاصيلِه بمشاهدةِ آثارِه وأحكامِه أو بمعاينةِ عينِه على أنَّ الأعمالَ تتجسمُ في النشأةِ الآخرةِ فيبرز كلٌّ من الحسناتِ والسيئاتِ بما يناسبُها من الصورِ الحسنةِ والقبـيحةِ أَوْ يتعظُ وقولُه تعالى: { وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذّكْرَىٰ } اعتراضٌ جِىءَ بهِ لتحقيقِ أنه ليسَ يتذكرُ حقيقةً لعرائِه عن الجَدوى بعدمِ وقوعِه فى أوانه وأنَّى خبرٌ مقدمٌ والذكْرَى مبتدأٌ وله متعلقٌ بما تعلقَ بهِ الخبرُ أيْ ومنْ أينَ يكونُ له الذكْرَى وقد فاتَ أوانُها وقيلَ هناكَ مضافٌ محذوفٌ أيْ وأنَّى له منفعةُ الذكْرَى، والاستدلالُ به عَلى عدم وجوبِ قبولِ التوبةِ في دارِ التكليفِ مما لا وجه لَهُ، على أن تذكّره ليسَ من التوبةِ في شيءٍ فإنَّه عالمٌ بأنَّها إنما تكونُ في الدُّنيا كما يُعربُ عنْهُ قولُه تعالَى:

{ يَقُولُ يٰلَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى } وهو بدلٌ اشتمالٍ من يتذكرُ أو استئنافٌ وقعَ جَواباً عن سؤالٍ نشأَ منْهُ كأنَّه قيلَ: ماذَا يقولُ عندَ تذكرِه، فقيلَ يقولُ يا ليتني عملتْ لأجل حياتِي هذِه أو وقتَ حياتِي في الدُّنيا أعمالاً صالحةً أنتفعُ بَها اليومَ وليس في هذا التمنِي شائبةُ دلالةٍ على استقلالِ العبدِ بفعلٍ وإنما الذي يدلُّ عليهِ ذلكَ اعتقادُ كونِه متمكناً من تقديمِ الأعمالِ الصالحةِ وأما أنَّ ذلكَ بمحضٍ قدرتِه أو بخلقِ الله تعالَى عندَ صرفِ قدرتِه الكاسبةِ إليهِ فكَلاَّ، وأما ما قيلَ من أن المحجورَ قد يتمنَّى إن كانَ ممكناً منْهُ فربما يوهُم أنَّ منْ صرفَ قدرتَهُ إلى أحدِ طَرفي الفعلِ يعتقدُ أنه محجورٌ من الطرفِ الآخرِ وليس كذلكَ بل كلُّ أحدٍ جازمٌ بأنَّه لو صرف قدرتَهُ إلى أي طرفٍ كانَ من أفعالِه الاختياريةِ لحصلَ وعلى هذا يدورُ فلكُ التكليفِ وإلزامُ الحجةِ.