التفاسير

< >
عرض

لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
١١٠
إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ وَٱلْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١١١
-التوبة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ٱلَّذِى بَنَوْاْ } البنيانُ مصدرٌ أُريد به المفعولُ، ووصفُه بالموصول الذي صلتُه فعله للإيذان بكيفية بنائِهم له وتأسيسِه على أوهن قاعدةٍ وأوهىٰ أساسٍ وللإشعار بعلة الحُكم، أي لا يزال مسجدُهم ذلك مبنياً ومهدوماً { رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ } أي سببَ ريبةٍ وشكَ في الدين كأنه نفسُ مُريبِه. أما حالَ بنيانه فظاهرٌ لِما أن اعتزالَهم من المؤمنين واجتماعَهم في مجمع على حياله يُظهرون فيه ما في قلوبهم من آثار الكفرِ والنفاقِ ويدبِّرون فيه أمورَهم ويتشاورون في ذلك، ويُلقي بعضُهم إلى بعض ما سمعوا من أسرار المؤمنين مما يزيدهم ريبة وشكاً في الدين، وأما حالَ هدمِه فلما أنه رسَخ به ما كان في قلوبهم من الشر وتضاعفت آثارُه وأحكامُه أو سبّب ريبةً في أمرهم حيث ضعُفت قلوبُهم ووهَى اعتقادُهم بخفاء أمرِهم على أمر المؤمنين لأنهم أظهروا من أمرهم بعد البناءِ أكثرَ مما كانوا يُظهرونه قبل ذلك وقت اختلاطِهم بالمؤمنين وساءت ظنونُهم بأنفسهم فلما هُدم بنيانُهم تضاعف ذلك الضَّعفُ وتقوّى وصاروا مُرتابـين في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يتركهم على ما كانوا عليه من قبل أو يأمرُ بقتلهم ونهبِ أموالِهم. وقال الكلبـي: معنى ريبةً حسرةً وندامة. وقال السدي وحبـيب والمبرد: لا يزال هدمُ بنيانِهم حزازةً وغيظاً في قلوبهم { إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ } من التفعل بحذف إحدى التاءين أي إلا أن تتقطع { قُلُوبِهِمْ } قِطعاً وتتفرّقَ أجزاءً بحيث لا يبقى لها قابليةُ إدراكٍ وإضمار قطعاً، وهو استثناءٌ من أعم الأوقاتِ أو أعم الأحوال ومحلُّه النصبُ على الظرفية أي لا يزال بنيانُهم ريبةً في كل الأوقات أو كلِّ الأحوال إلا وقتَ تقطُّع قلوبهم أو حالَ تقطعِ قلوبِهم، فحينئذ يسْلُون عنها وأما ما دامت سالمةً فالريبةُ باقيةٌ فيها فهو تصويرٌ لامتناع زوالِ الريبةِ عن قلوبهم، ويجوزُ أن يكون المرادُ حقيقةً تقطُّعُها عند قتلِهم أو في القبور أو في النار، وقرىء تُقَطّع على بناء المجهول من التفعيل وعلى البناء للفاعل منه على خطاب النبـي صلى الله عليه وسلم أي إلا أن تُقطِّع أنت قلوبَهم بالقتل، وقرىء على البناء للمجهول من الثلاثي مذكراً ومؤنثاً وقرىء إلى تقطُّعِ قلوبهم وإلى أن تُقطِّع قلوبَهم على الخطاب، وقرىء ولو قُطِّعت قلوبُهم على إسناد الفعل مجهولاً إلى قلوبهم ولو قَطَّعتَ قلوبَهم على الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد يصلُح للخطاب. وقيل: إلا أن يتوبوا توبةً تتقطّع بها قلوبُهم ندماً وأسفاً على تفريطهم { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ } بجميع الأشياءِ التي من جملتها ما ذكر من أحوالهم { حَكِيمٌ } في جميع أفعالِه التي من زمرتها أمرُه الواردُ في حقهم.

{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوٰلَهُمْ } ترغيبٌ للمؤمنين في الجهاد ببـيان فضيلتِه إثرَ بـيانِ حالِ المتخلفين عنه، ولقد بولغ في ذلك على وجه لا مزيدَ عليه حيث عبّر عن قَبول الله تعالى من المؤمنين أنفسَهم وأموالَهم التي بذلوها في سبـيله تعالى وإثابتِه إياهم ـ بمقابلتها ـ الجنةَ بالشراء على طريقة الاستعارةِ التبعية ثم جُعل المبـيعُ الذي هو العُمدةُ والمقصِدُ في العقد أنفُسَ المؤمنين وأموالَهم والثمنُ الذي هو الوسيلةُ في الصفقة الجنةُ ولم يُجعل الأمرُ على العكس بأن يقال: إن الله باع الجنةَ من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم ليدل على أن المقصِد في العقد هو الجنةُ وما بذله المؤمنون في مقابلتها من الأنفس والأموال وسيلةٌ إليها إيذاناً بتعليق كمالِ العنايةِ بهم وبأموالهم ثم إنه لم يقل بالجنة بل قيل: { بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ } مبالغةً في تقرير وصولِ الثمنِ إليهم واختصاصِه بهم كأنه قيل: بالجنة الثابتةِ لهم المختصةِ بهم. وأما ما يقال من أن ذلك لمدح المؤمنين بأنهم بذلوا أنفسَهم وأموالَهم بمجرد الوعدِ لكمال ثقتِهم بوعده تعالى وأن تمامَ الاستعارةِ موقوفٌ على ذلك إذ لو قيل: بالجنة لاحتمل كونُ الشراء حقيقةً لأنها صالحةٌ للعِوضية بخلاف الوعيدِ بها فليس بشيء لأن مناطَ دِلالةِ ما عليه النظمُ الكريمُ على الوعد ليس كونُه جملةً ظرفيةَ مصدّرةً بأن فإن ذلك بمعزل من الدلالة على الاستقبال بل هو الجنةُ التي يستحيل وجودُها في الدنيا ولو سلم ذلك يكون العوضُ الجنةَ الموعودَ بها { يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } استئنافٌ لكن لا لبـيان ما لأجله الشراءُ ولا لبـيان نفسِ الاشتراء لأن قتالَهم في سبـيل الله تعالى ليس باشتراء الله تعالى منهم أنفسَهم وأموالَهم بل هو بذلٌ لهما في ذلك بل لبـيان البـيعِ الذي يستدعيه الاشتراءُ المذكورُ كأنه قيل: كيف يبـيعون أنفسَهم وأموالَهم بالجنة؟ فقيل: يقاتلون في سبـيل الله وهو بدلٌ منهم لأنفسهم وأموالهم إلى جهة الله سبحانه وتعريضٌ لهما للهلاك وقوله تعالى: { فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } بـيانٌ لكون القتالِ في سبـيل الله بذلاً للنفس وأن المقاتِلَ في سبـيله باذلٌ لها وإن كانت سالمةً غانمة، فإن الإسنادَ في الفعلين ليس بطريق اشتراطِ الجمعِ بـينهما ولا اشتراطِ الاتصافِ بأحدهما البتةَ بل بطريق وصفِ الكلِّ بحال البعضِ فإنه يتحقق القتالُ من الكل سواءٌ وجد الفعلان أو أحدَهما منهم أو من بعضهم بل يتحقق ذلك وإن لم يصدُرْ منهم أحدُهما أيضاً كما إذا وُجدت المضاربةُ ولم يوجد القتلُ من أحد الجانبـين أو لم توجد المضاربةُ أيضاً فإنه يتحقق للجهادُ بمجرد العزيمة والنفير وتكثيرِ السواد، وتقديمُ حالةِ القاتلية على حالة المقتوليةِ للإيذان بعدم الفرقِ بـينهما في كونهما مصداقاً لكون القتالِ بذلاً للنفس وقرىء بتقديم المبنيِّ للمفعول رعايةً لكون الشهادة عريقةً في الباب وإيذاناً بعدم مبالاتِهم بالموت في سبـيل الله تعالى بل بكونه أحبَّ إليهم من السلامة كما قيل في حقهم:

لا يفرحون إذا نالت رماحهمقوماً وليسوا مَجازيعاً إذا نِيلوا
لا يقع الطعنُ إلا في نحورِهموما لهم عن حِياض الموتِ تهليلُ

وقيل: في يقاتلون الخ معنى الأمر كما في قوله تعالى: { وَتُجَـٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } [الصف: 11] { وَعْدًا عَلَيْهِ } مصدرٌ مؤكدٌ لما يدل عليه كونُ الثمنِ مؤجلاً { حَقّاً } نعتٌ لوعداً والظرفُ حال منه لأنه لو تأخر لكان صفةً له وقوله تعالى: { فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنجِيلِ وَٱلْقُرْءانِ } متعلقٌ بمحذوف وقعَ صفةً لوعداً أي وعداً مثبتاً في التوراة والإنجيل كما هو مثبتٌ في القرآن { وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ } اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله من حقية الوعدِ على نهج المبالغةِ في كونه سبحانه أوفى بالعهد من كل وافٍ فإن اختلافَ الميعاد مما لا يكاد يصدُر عن كرام الخلقِ مع إمكان صدورِه عنهم فكيف بجناب الخلاقِ الغنيِّ عن العالمين جل جلاله وسبكُ التركيب وإن كان على إنكارِ أن يكون أحدٌ أوفى بالعهد منه تعالى من غير تعرّضٍ لإنكار المساواةِ ونفيها لكن المقصودَ به قصداً مطرداً إنكارُ المساواةِ ونفيُها قطعاً فإذا قيل: مَنْ أكرمُ من فلان؟ أو لا أفضلَ منه، فالمرادُ به حتماً أنه أكرمُ من كل كريمٍ وأفضلُ من كل فاضل { فَٱسْتَبْشِرُواْ } التفاتٌ إلى الخطاب تشريفاً لهم على تشريف وزيادةً لسرورهم على سرور، والاستبشارُ إظهارُ السرور، والسينُ فيه ليس للطلب، كاستوقَدَ وأوقد، والفاء لترتيب الاستبشارِ أو الأمر به على ما قبله أي فإذا كان كذاك فسُرّوا نهايةَ السرور وافَرحوا غايةَ الفرحِ بما فُزتم به من الجنة، وإنما قيل: { بِبَيْعِكُمُ } مع أن الابتهاجَ به باعتبار أدائِه إلى الجنةِ لأن المرادَ ترغيبُهم في الجهاد الذي عبّر عنه بالبـيع وإنما لم يُذكر العقدُ بعنوان الشراءِ لأن ذلك من قبل الله سبحانه لا من قبلهم، والترغيبُ إنما يكون فيما يتم من قبلهم، وقوله تعالى: { ٱلَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ } لزيادة تقرير بـيعِهم وللإشعار بكونه مغايراً لسائر البـياعات فإنه بـيعٌ للفاني بالباقي ولأن كِلا البدلين له سبحانه وتعالى. عن الحسن رضي الله عنه أنفُساً هو خلقها وأموالاً هو رزقها. روي "أن الأنصارَ لما بايعوه عليه الصلاة والسلام على العقبة قال عبدُ اللَّه بنُ رواحةَ رضي الله تعالى عنه: اشترِطْ لربك ولنفسك ما شئت. قال عليه الصلاة والسلام: أشترطُ لربـي أن تعبُدوه ولا تشرِكوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون به أنفسَكم، قال: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: لكم الجنة، قالوا: ربِحَ البـيعُ لا نُقيل ولا نستقيل" . ومر برسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابـيٌّ وهو يقرأها قال: كلامُ مَنْ؟ قال: «كلامُ الله عز وجل» قال: بـيعٌ والله مُربحٌ لا نُقيله ولا نستقيله، فخرج إلى الغزو واستُشهد. { وَذَلِكَ } أي الجنةُ التي جعلت ثمناً بمقابلة ما بذلوا من أنفسهم وأموالِهم { هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } الذي لا فوزَ أعظمُ منه، وما في ذلك من معنى البُعد إشارةٌ إلى بُعد منزلةِ المشارِ إليه وسموِّ رتبتِه في الكمال، ويجوز أن يكون ذلك إشارةً إلى البـيع الذي أُمروا بالاستبشار به ويجعل ذلك كأنه نفسُ الفوز العظيم أو يُجعل فوزاً في نفسه، فالجملةُ على الأول تذيـيلٌ للآية الكريمة وعلى الثاني لقوله تعالى: { فَٱسْتَبْشِرُواْ } مقرِّرٌ لمضمونه.