التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَىٰ ٱلزَّكَٰوةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ
١٨
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجِّ وَعِمَارَةَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
١٩
-التوبة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ } الكلامُ في إيراد صيغةِ الجمعِ كما مر فيما مر، خلا أن إرادةَ جميعِ المساجدِ وإدراجَ الحرامِ في ذلك غيرُ مخالفةٍ لمقتضى الحال، فإن الإيجابَ ليس كالسلب وقد قرىء بالإفراد أيضاً والمرادُ هٰهنا أيضاً قصرُ تحققِ العِمارةِ ووجودها على المؤمنين لا قصر جوازها ولياقتها أي إنما يصح ويستقيم أن يعمرها عمارةً يُعتدّ بها { مَنْ ءامَنَ بِٱللَّهِ } وحده { وَٱلْيَوْمِ ٱلأَخِرِ } بما فيه من البعد والحساب والجزاءِ حسبما نطَق به الوحيُ { وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ } على ما علم من الدين فيندرجُ فيه الإيمانُ بنبوة النبـي صلى الله عليه وسلم حتماً وقيل: هو مندرجٌ تحت الإيمانِ بالله خاصةً فإن أحدَ جُزْأي كلمتي الشهادة علمٌ للكل أي إنما يعمُرها مَنْ جمع هذه الكمالاتِ العلميةَ والعمليةَ، والمرادُ بالعمارة ما يعم مَرَمَّةَ ما استرمّ منها وقمُّها وتنظيفُها وتزيـينُها بالفُرُش وتنويرُها بالسُّرُج وإدامةُ العبادة والذكرُ ودراسةُ العلوم فيها ونحوُ ذلك وصيانتُها مما لم تُبنَ له كحديث الدنيا. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحديثُ في المسجد يأكلُ الحسناتِ كما تأكل البهيمةُ الحشيش" وقال عليه الصلاة والسلام: "قال الله تعالى: إن بـيوتي في أرضي المساجدُ وإن زوّاري فيها عُمّارُها فطوبـى لعبد تطهر في بـيته ثم زارني في بـيتي فحقّ على المَزورِ أن يكرم زائرِه" وعنه عليه الصلاة والسلام: "من ألِفَ المسجدَ ألِفَه الله تعالى" وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا رأيتم الرجلَ يعتادُ المساجدَ فاشهدوا له بالإيمان" وعن أنس رضى الله عنه: «من أسرج في مسجد سِراجاً لم تزل الملائكةُ وحملةُ العرشِ تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوؤُه» { وَلَمْ يَخْشَ } في أمور الدين { إِلاَّ ٱللَّهَ } فعمِل بموجب أمرِه ونهيه غيرَ آخذٍ له في الله لومةُ لائمٍ ولا خشيةُ ظالم فيندرج فيه عدمُ الخشية عن القتال ونحوُ ذلك، وأما الخوفُ الجِبِليُّ من الأمور المَخوفةِ فليس من هذا الباب ولا مما يدخُل تحت التكليفِ والخطاب، وقيل: كانوا يخشَوْن الأصنام ويرجونها فأريد نفيُ تلك الخشيةِ عنهم { فَعَسَىٰ أُوْلَـئِكَ } المنعوتون بتلك النعوتِ الجميلة { أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ } إلى مباغيهم من الجنة وما فيها من فنون المطالبِ العليةِ، وإبرازُ اهتدائِهم مع ما بهم من الصفات السنيةِ في معرِض التوقعِ لقطع أطماعِ الكفرةِ عن الوصول إلى مواقف الاهتداء والانتفاعِ بأعمالهم التي يحسَبون أنهم في ذلك محسنون، ولتوبـيخهم بقطعهم بأنهم مهتدون، فإن المؤمنين ـ مع ما بهم من هذه الكمالاتِ، إذا كان أمرُهم دائراً بـين لعل وعسى ـ فما بالُ الكفرة وهم هُمْ، وأعمالهم أعمالُهم وفيه لطفٌ للمؤمنين وترغيبٌ لهم في ترجيح جانبِ الخوفِ على جانب الرجاءِ ورفض الاعتذار بالله تعالى.

{ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجّ وَعِمَارَةَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } أي في الفضيلة وعلوِّ الدرجة { كَمَنْ ءامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلأَخِرِ وَجَـٰهَدَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } السقايةُ والعِمارةُ مصدران لا يتصور تشبـيهُهما بالأعيان فلا بد من تقدير مضافٍ في أحد الجانبـين أي أجعلتم أهلَهما كمن آمن بالله الخ، ويؤيده قراءةُ من قرأ سُقاةَ الحاجِّ وعُمرةَ المسجد الحرام أو أجعلتموهما كإيمان من آمن الخ، وعلى التقديرين فالخطابُ إما للمشركين على طريقة الالتفاتِ وهو المتبادر من تخصيص ذكرِ الإيمانِ بجانب المشبَّهِ به، وإما لبعض المؤمنين المؤثِرين للسقاية والعِمارةِ ونحوِهما على الهجرة والجهادِ ونظائرِهما وهو المناسبُ للاكتفاء في الرد عليهم ببـيان عدمِ مساواتِهم عند الله للفريق الثاني وبـيانِ أعظميةِ درجتِهم عند الله تعالى على وجه يُشعر بعدم حِرمانِ الأوّلين بالكلية، وجعلُ معنى التفضيلِ بالنسبة إلى زعم الكفرةِ لا يُجدي كثيرَ نفعٍ لأنه إن لم يُشعِرْ بعدم الحِرمانِ فليس بمُشعر بالحِرمان أيضاً أما على الأول فهو توبـيخٌ للمشركين ومدارُه على إنكار تشبـيهِ أنفسِهم من حيث اتصافُهم بوصفيهم المذكورين مع قطع النظرِ عما هم عليه من الشرك بالمؤمنين من حيث اتصافُهم بالإيمان والجهاد، أو على إنكار تشبـيهِ وصفيهم المذكورين في حد ذاتِهما مع الإغماض عن مقارنتهما للشرك بالإيمان والجهادِ، وأما اعتبارُ مقارنتِهما له كما قيل فيأباه المقامُ، كيف لا وقد بـيِّن آنفاً حبوطُ أعمالِهم بذلك الاعتبارِ بالمرة وكونُها بمنزلة العدم، فتوبـيخُهم بعد ذلك على تشبـيههما بالإيمان والجهادِ ثم رَدُّ ذلك بما يُشعر بعدم حِرمانِهم عن أصل الفضيلة بالكلية كما أشير إليه، مما لا يساعده النظمُ التنزيليُّ ولو اعتُبر ذلك لما احتيج إلى تقرير إنكارِ التشبـيهِ وتأكيدِه بشيء آخرَ إذ لا شيءَ أظهرُ بطلاناً من تشبـيه المعدومِ بالموجود، فالمعنى أجعلتم أهلَ السقايةِ والعمارةِ في الفضيلة كمن آمن بالله واليومِ الآخرِ وجاهد في سبـيله أو أجعلتموهما في ذلك كالإيمان والجهادِ وشتانَ بـينهما فإن السقايةَ والعمارةَ وإن كانتا في أنفسِهما من أعمال البرِّ والخيرِ لكنهما ـ وإن خَلَتا عن القوادح ـ بمعزل عن صلاحيةِ أن يُشبَّه أهلُهما بأهل الإيمان والجهادِ أو يُشَّبهَ أنفسُهما بنفس الإيمان والجهادِ، وذلك قوله عز وجل: { لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ ٱللَّهِ } أي لا يساوي الفريقُ الأول الثانيَ من حيث اتصافُ كلَ منهما بوصفيهما ومن ضرورته عدمُ التساوي بـين الوصفَين الأولين وبـين الآخَرَين لأنه المدارَ في التفاوت بـين الموصوفَين، وإسنادُ عدمِ الاستواءِ إلى الموصوفين، لأن الأهمَّ بـيانُ تفاوتِهم، وتوجيهُ النفي هٰهنا والإنكارُ فيما سلف إلى الاستواء والتشبـيهِ مع أن دعوى المفتخِرين بالسقاية والعمارةِ من المشركين والمؤمنين إنما هي الأفضليةُ دون التساوي والتشابه ـ للمبالغة في الرد عليهم فإن نفيَ التساوي والتشابهِ نفيٌ للأفضلية بالطريق الأولى، والجملةُ استئنافٌ لتقرير الإنكارِ المذكورِ وتأكيدِه، أو حال من مفعولي الجَعل، والرابطُ هو الضميرُ كأنه قيل: أسوَّيتم بـينهم حال كونِهم متفاوتين عنده تعالى وقوله تعالى: { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ } حُكمٌ عليهم بأنهم مع ظلمهم بالإشراك ومعاداةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم ضالون في هذا الجعلِ غيرُ مهتدين إلى طريق معرفةِ الحقِّ وتميـيزِ الراجحِ من المرجوح، وظالمون بوضع كلَ منهما موضعَ الآخَر وفيه زيادةُ تقريرٍ لعدم التساوي بـينهم.