التفاسير

< >
عرض

إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٤٠
-التوبة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ } أي إن لم تنصُروه فسينصُره الله الذي قد نصره في وقت ضرورةٍ أشدَّ من هذه المرة، فحُذف الجزاءُ وأقيم سببُه مُقامَه أو إن لم تنصُروه فقد أوجب له النُصرة حتى نصره في مثل ذلك الوقت فلن يخذُله في غيره { إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي تسببوا لخروجه حيث أُذن له عليه الصلاة والسلام في ذلك حين همّوا بإخراجه { ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ } حالٌ من ضميره عليه الصلاة والسلام، وقرىء بسكون الياء على لغة من يُجري الناقصَ مُجرى المقصور في الإعراب، أي أحدَ اثنين من غير اعتبار كونِه عليه الصلاة والسلام ثانياً فإن معنى قولِهم: ثالثُ ثلاثةٍ ورابعُ أربعةٍ ونحوُ ذلك أحدُ هذه الأعدادِ مطلقاً لا الثالثُ والرابعُ خاصة، ولذلك منع الجمهورُ أن يُنصَبَ ما بعده بأن يقال: ثالثٌ ثلاثةً ورابعٌ أربعةً، وقد مر في قوله تعالى: { { لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَـٰلِثُ ثَلَـٰثَةٍ } [المائدة: 73] من سورة المائدة وجعلُه عليه الصلاة والسلام ثانيَهما لمشي الصديقِ أمامَه ودخولِه في الغار أولاً لكنسه وتسويةِ البِساط له ـ كما ذكر في الأخبار ـ تمحّلٌ مُستغنىً عنه { إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ } بدلٌ من إذ أخرجه بدلَ البعضِ إذ المرادُ به زمانٌ متسعٌ والغارُ ثقبٌ في أعلى ثوْرٍ وهو جبلٌ في يُمنىٰ مكةَ على مسيرة ساعةٍ مكثاً فيه ثلاثاً.

{ إِذْ يَقُولُ } بدلٌ ثانٍ أو ظرفٌ لثانيَ { لِصَاحِبِهِ } أي الصدّيق { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا } بالعون والعصمةِ والمرادُ بالمعية الولايةُ الدائمةُ التي لا تحوم حول صاحبِها شائبةُ شيءٍ من الحزن، وما هو المشهورُ من اختصاص مَعَ بالمتبوع فالمرادُ بما فيه من المتبوعية في الأمر المباشر، (روي "أن المشركين لما طلعوا فوق الغار فأشفق أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنْ نُصَبْ اليومَ ذهب دينُ الله فقال عليه الصلاة والسلام: ما ظنُّك باثنين الله ثالثُهما؟" وقيل: (لما دخلا الغارَ بعث الله تعالى حمامتين فباضتا في أسفله والعنكبوتَ فنسَجت عليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أعمِ أبصارَهم" فجعلوا يترددون حول الغار ولا يفطَنون قد أخذ الله تعالى أبصارهم عنه)، وفيه من الدِلالة على علو طبقةِ الصّدّيق رضي الله عنه وسابقةِ صُحبتِه ما لا يخفى، ولذلك قالوا: من أنكر صُحبةَ أبـي بكر رضى الله عنه فقد كفر لإنكاره كلامَ الله سبحانه وتعالى { فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ } أمَنتَه التي تسكُن عندها القلوب { عَلَيْهِ } على النبـي صلى الله عليه وسلم فالمرادُ بها ما لا يحوم حوله شائبةُ الخوفِ أصلاً أو على صاحبه إذ هو المنزعِج، وأما النبـي صلى الله عليه وسلم فكان على طُمَأْنينة من أمره { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } عطفٌ على نصره الله والجنودُ هم الملائكةُ النازلون يوم بدرٍ والأحزابِ وحُنينٍ، وقيل: هم الملائكةُ أنزلهم الله ليحرِسوه في الغار ويأباه وصفُهم بعدم رؤيةِ المخاطَبـين لهم وقوله عز وعلا: { وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ } يعني الشركَ أو دعوةَ الكفرِ فإن ذلك الجعلَ لا يتحقق بمجرد الأنجاءِ بالقتل والأسر ونحو ذلك { وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ } أي التوحيدُ أو دعوةُ الإسلام { هِىَ ٱلْعُلْيَا } لا يدانيها شيءٌ، وتغيـيرُ الأسلوب للدِلالة على أنها في نفسها كذلك لا يتبدل شأنُها ولا يتغيرُ حالُها دون غيرِها من الكلم ولذلك وُسِّط ضميرُ الفصلِ، وقرىء بالنصب عطفاً على كلمة الذين { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ } لا يغالب { حَكِيمٌ } في حكمه وتدبـيره.