التفاسير

< >
عرض

وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ٱئْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلا فِي ٱلْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ
٤٩
إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ
٥٠
-التوبة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ٱئْذَن لّي } في القعود { وَلاَ تَفْتِنّى } أي لا توقِعْني في الفتنة وهي المعصيةُ والإثمُ يريد إني متخلِّفٌ لا محالة أذِنتَ أو لم تأذَنْ فائذن لي حتى لا أقعَ في المعصية بالمخالفة أو لا تُلقِني في الهلكة فإني إن خرجتُ معك هلَك مالي وعيالي لعدم مَنْ يقوم بمصالحهم. وقيل: قال الجدُّ بنُ قيس: قد علمت الأنصارُ أني مشتهرٌ بالنساء فلا تفتنّي ببنات الأصفر، يعنى نساءَ الروم ولكن أُعينُك بمالي فاترُكني، وقرىء ولا تُفْتِنِّي من أفْتنَه بمعنى فتنه { أَلا فِى ٱلْفِتْنَةِ } أي في عينها ونفسها وأكملِ أفرادِها الغنيِّ عن الوصف بالكمال الحقيقِ باختصاص اسمِ الجنسِ به { سَقَطُواْ } لا في شيء مُغايرٍ لها فضلاً عن أن يكون مهرَباً ومخلَصاً عنها وذلك بما فعلوا من العزيمة على التخلف والجراءةِ على الاستئذان بهذه الطريقة الشنيعةِ ومن القعود بالإذن المبنيِّ عليه وعلى الاعتذارات الكاذبةِ وقرىء بإفراد الفعلِ محافظةً على لفظ (مَن) وفي تصدير الجملةِ بحرف التنبـيه مع تقديم الظرفِ إيذانٌ بأنهم وقعوا فيها وهم يحسَبون أنها مَنْجى من الفتنة زعماً منهم أن الفتنةَ إنما هي التخلفُ بغير إذن، وفي التعبـير عن الافتتان بالسقوط في الفتنة تنزيلٌ لها منزلةَ المَهواة المُهلِكةِ المُفصحةِ عن تردّيهم في دَركات الرَّدى أسفلَ سافلين.

وقوله عز وجل: { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَـٰفِرِينَ } وعيدٌ لهم على ما فعلوا معطوفٌ على الجملة السابقة داخلٌ تحت التنبـيهِ أي جامعةٌ لهم يوم القيامة من كل جانب، وإيثارُ الجملةِ الاسميةِ للدِلالة على الثبات والاستمرارِ أو محيطةٌ بهم الآن تنزيلاً لشيء سيقع عن قريب منزلَة الواقعِ أو وضعاً لأسباب الشيءِ موضعَه فإن مباديءَ إحاطةِ النارِ بهم من الكفر والمعاصي محيطةٌ بهم الآن من جميع الجوانبِ ومن جملتها ما فرّوا منه وما سقطوا فيه من الفتنة، وقيل: تلك المبادىء المتشكلةُ بصور الأعمالِ والأخلاق هي النارُ بعينها ولكن لا يظهر ذلك في هذه النشأةِ وإنما يظهر عند تشكُّلِها بصورها الحقيقيةِ في النشأة الآخرة، والمرادُ بالكافرين إما المنافقون ـ وإيثارُ وضعِ المُظهَر موضعَ المضمرِ للتسجيل عليهم بالكفر والإشعارِ بأنه معظمُ أسبابِ الإحاطة المذكورة ـ وإما جميعُ الكافرين الشاملين للمنافقين شمولاً أولياً.

{ إِن تُصِبْكَ } في بعض مغازيك { حَسَنَةٌ } من الظَفَر والغنيمة { تَسُؤْهُمْ } تلك الحسنةُ أي تورِثُهم مساءةً لفرط حسَدِهم وعداوتهم لك { وَإِن تُصِبْكَ } في بعضها { مُّصِيبَةٌ } من نوع شدة { يَقُولُواْ } متبجّحين بما صنعوا حامدين لآرائهم { قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا } أي تلافَيْنا ما يُهمّنا من الأمر، يعنون به الاعتزالَ عن المسلمين والقعودَ عن الحرب والمداراةَ مع الكفرة وغيرَ ذلك من أمور الكفر والنفاقِ قولاً وفعلاً { مِن قَبْلُ } أي من قبلِ إصابةِ المصيبة في وقت تدارُكِه، يشيرون بذلك إلى أن المعاملةَ المذكورةَ إنما تروّج عند الكفرةِ بوقوعها حالَ قوةِ الإسلامِ لا بعد إصابةِ المصيبة { وَيَتَوَلَّواْ } عن مجلس الاجتماعِ والتحدثِ إلى أهاليهم أو يُعرِضوا عن النبـي صلى الله عليه وسلم { وَّهُمْ فَرِحُونَ } بما صنعوا من أخذ الأمرِ وبما أصابه عليه الصلاة والسلام، والجملة حالٌ من الضمير في (يقولوا) و(يتولوا) لا في الأخير فقط، لمقارنة الفرَحِ لهما معاً، وإيثارُ الجملةِ الاسمية للدِلالة على دوام السرورِ، وإسنادُ المَساءة إلى الحسنة والمَسرَّة إلى أنفسهم دون المصيبة بأن يقال: وإن تُصِبْك مصيبةٌ تَسْرُرْهم للإيذان باختلاف حاليهم حالتي عروضِ المَساءة والمسرةِ بأنهم في الأولى مضطرون وفي الثانية مختارون.