التفاسير

< >
عرض

فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ ٱللَّهِ وَكَرِهُوۤاْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي ٱلْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ
٨١
فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
٨٢
-التوبة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ } أي الذين خلّفهم النبـيُّ صلى الله عليه وسلم بالإذن لهم في القعود عند استئذانِهم أو خلّفهم الله بتثبـيطه إياهم لِما علم في ذلك من الحِكمة الخفية أو خلّفهم كسلُهم أو نفاقُهم { بِمَقْعَدِهِمْ } متعلقٌ بفرِحَ أي بقعودهم وتخلّفِهم عن الغزو { خِلَـٰفَ رَسُولِ ٱللَّهِ } أي خلفه وبعد خروجِه حيث خرج ولم يخرُجوا يقال: أقام خلافَ الحيِّ أي بعدهم، ظعنوا ولم يظعَن، ويؤيده قراءةُ من قرأ خلفَ رسولِ الله، فانتصابُه على أنه ظرفٌ لمقعدهم إذ لا فائدة في تقيـيد فرحِهم بذلك، وقيل: هو بمعنى المخالفة ويعضُده قراءة من قرأ خُلفَ رسولِ الله بضم الخاء فانتصابُه على أنه مفعولٌ له والعاملُ إما (فرح) أي فرحوا لأجل مخالفتِه عليه الصلاة والسلام بالقعود وإما (مقعدِهم) أي فرحوا بقعودهم لأجل مخالفته عليه الصلاة والسلام أو على أنه حالٌ والعامل أحدُ المذكورَيْن أي فرحوا مخالفين له عليه الصلاة والسلام أو فرحوا بالقعود مخالفين له عليه الصلاة والسلام { وَكَرِهُواْ أَن يُجَـٰهِدُواْ بِأَمْوٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } لا إيثاراً للدعةِ والخفْضِ على طاعة الله تعالى فقط بل مع ما في قلوبهم من الكفر والنفاقِ، فإن إيثارَ أحدِ الأمرين قد يتحقق بأدنى رُجْحانٍ منه من غير أن يبلُغ الآخرُ مرتبةَ الكراهيةِ وإنما أوثر ما عليه النظمُ الكريمُ على أن يقال: وكرهوا أن يخرُجوا إلى الغزو إيذاناً بأن الجهادَ في سبـيل الله مع كونه من أجلّ الرغائبِ وأشرفِ المطالبِ التي يجب أن يتنافسَ فيها المتنافسون قد كرهوه كما فرحوا بأقبح القبائحِ الذي هو القعودُ خلافَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم { وَقَالُواْ } أي لإخوانهم تثبـيتاً لهم على التخلف والقعودِ وتواصياً فيما بـينهم بالشر والفساد أو للمؤمنين تثبـيطاً لهم عن الجهاد ونهياً عن المعروف وإظهاراً لبعض العللِ الداعيةِ لهم إلى ما فرِحوا به من القعود، فقد جمَعوا ثلاثَ خلالٍ من خصال الكفر والضلالِ: الفرحُ بالقعودِ وكراهيةُ الجهاد ونهيُ الغير عن ذلك { لاَ تَنفِرُواْ فِى ٱلْحَرّ } فإنه لا يستطاع شدّتُه { قُلْ } رداً عليهم وتجهيلاً لهم { نَارُ جَهَنَّمَ } التي ستدخُلونها بما فعلتم { أَشَدُّ حَرّا } مما تحذرون من الحر المعهودِ وتحذّرون الناسَ منه، فما لكم لا تحذَرونها وتعرِّضون أنفسَكم لها بإيثار القعودِ على النفير { لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } اعتراضٌ تذيـيليٌّ من جهته سبحانه وتعالى غيرُ داخلٍ تحت القولِ المأمور به مؤكدٌ لمضمونه وجوابُ لو إما مقدرٌ أي لو كانوا يفقهون أنها كذلك، أو كيف هي أو إنْ آل مآلُهم إليها لَما فعلوا، أو لتأثروا بهذا الإلزامِ، وإما غيرُ منويَ على أن لو لمجرد التمني المنبىء عن امتناع تحققِ مدخولِها أي لو كانوا من أهل الفَطانةِ والفِقه كما في قوله عز وجل: { { قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا تُغْنِى ٱلآيَـٰتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } [يونس: 101] { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا } إخبارٌ عن عاجل أمرِهم وآجلِه من الضحِك القليلِ والبكاءِ الطويلِ المؤدِّي إليه أعمالُهم السيئةُ التي من جملتها ما ذكر من الفرح، والفاءُ لسببـية ما سبق للإخبار بما ذُكر من الضحِك والبكاءِ لا لنفسهما، إذ لا يُتصوَّر السببـيةُ في الأول أصلاً، وقليلاً وكثيراً منصوبان على المصدرية أو الظرفية أي ضَحِكاً قليلاً وبكاءً كثيراً أو زماناً قليلاً وزماناً كثيراً، وإخراجُه في صورة الأمرِ للدِلالة على تحتم وقوعِ المُخبَرِ به، فإن أمرَ الآمرِ المطاعِ مما لا يكاد يتخلّف عنه المأمورُ به خلا أن المقصودَ إفادتُه في الأول هو وصفُ القِلة فقط وفي الثاني وصفُ الكثرةِ مع الموصوف.

يروى أن أهلَ النفاق يبكون في النار عمُرَ الدنيا لا يرقأ لهم دمعٌ ولا يكتحلون بنوم. ويجوز أن يكون الضحِكُ كنايةً عن الفرح والبكاءُ عن الغم وأن تكون القِلةُ عبارةً عن العدم والكثرةُ عن الدوام { جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } من فنون المعاصي، والجمعُ بـين صيغتي الماضي والمستقبلِ للدلالة على الاستمرار التجدّدي ما داموا في الدنيا، وجزاءً مفعولٌ له للفعل الثاني أي ليبكوا جزاءً أو مصدرٌ حُذف ناصبُه أي يُجزَون بما ذكر من البكاء الكثيرِ جزاءً بما كسبوا من المعاصي المذكورة.