التفاسير

< >
عرض

فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ
٣
وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ
٤
وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ ٱلقَيِّمَةِ
٥
-البينة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

وقولُه تعالى: { فِيهَا كُتُبٌ قَيّمَةٌ } صفةٌ لصحفاً أوْ حالٌ منْ ضميرِها من مطهرةٍ ويجوزُ أنْ يكونَ الصفةُ أو الحالُ الجارَّ والمجرورَ فَقَطْ وكتبٌ مرتفعاً بِه على الفاعليةِ ومَعْنى قيمةٌ مستقيمةٌ ناطقةٌ بالحقِّ والصوابِ. وقولُه تعالَى:

{ وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } إلخ كلامٌ مسوقٌ لغايةِ تشنيعِ أهلِ الكتابِ خاصَّةٌ وتغليظِ جناياتِهم ببـيانِ أنَّ ما نسبَ إليهمْ من الانفكاكِ لم يكُنْ لاشتباهٍ مَا في الأمرِ بلْ كانَ بعدَ وضوحِ الحقِّ وتبـينِ الحالِ وانقطاعِ الأعذار بالكليةِ وهُوَ السرُّ في وصفِهم بإيتاءِ الكتابِ المنبىءِ عن كمالِ تمكنِهم منْ مطالعتِه والإحاطةِ بَما فِي تضاعيفِه من الأحكامِ والأخبارِ التي مِنْ جُملتِها نعوتُ النبـيِّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بعدَ ذكِرَهم فيما سبقَ بما هُوَ جارٍ مَجْرَى اسمِ الجنسِ للطائفتينِ ولَمَّا كانَ هؤلاءِ وَالمشركونَ باعتبارِ اتفاقِهم عَلَى الرأي المذكورِ في حكمِ فريقٍ واحدٍ عبرَ عَمَّا صدرَ عنهمْ عقيبَ الاتفاقِ عندِ الإخبارِ بوقوعِه بالانفكاكِ وعندَ بـيانِ كيفيةِ وقوعِه بالتفرقِ اعتبارِ الاستقلال كل من فريقي أهل الكتاب وإيذاناً بأن انفكاكهم عن الرأي المذكور ليس بطريق الاتفاق على رأي أخر بل بطريق الاختلاف القديم وقولُه تعالى.

{ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ ٱلْبَيّنَةُ } استثناءٌ مفرغٌ منْ أعمِّ الأوقاتِ أيْ وما تفرقُوا في وقتٍ منَ الأوقاتِ إلا منْ بعدِ ما جاءتُهمْ الحجةُ الواضحةُ الدالَّةُ على أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم هو الموعودُ في كتابِهم دلالةً جليةً لا ريبَ فيَها كقولِه تعالى: { { وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْعِلْمُ } [سورة آل عمران، الآية 19]. وقولُه تعالى { وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ } جملةٌ حاليةٌ مفيدةٌ لغايةِ قبحِ ما فعلُوا أيْ والحالُ أنَّهم ما أُمِرُوا بَما أُمروا في كتابِهم إلا لأجلِ أنْ يعبدُوا الله، وقيلَ: اللامُ بمَعْنى أنْ أي إلا بأنْ يعبدُوا الله، ويعضدُه قراءةُ إلا أنْ يعبدُوا الله { مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ } أي جاعلينَ دينَهُم خَالِصاً له تعالَى أو جاعلينَ أنفسَهُم خالِصةً لَهُ تعالَى في الدِّينِ. { حُنَفَاء } مائلينَ عن جميعِ العقائدِ الزائغةِ إلى الإسلامِ { وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ } إنْ أُريدَ بهما ما في شريعتِهم من الصَّلاةِ والزَّكاةِ فالأمرُ ظاهرٌ وإنْ أُريدَ ما في شريعتِنا فمَعْنى أمرِهم بهما في الكتابـينِ أنَّ أمرَهُم باتباعِ شريعتِنا أمرٌ لهم بجميعِ أحكامِها التي هُمَا من جُملتها.

{ وَذَلِكَ } إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ من عبادةِ الله تعالى بالإخلاصِ وإقامةِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ وما فيهِ من مَعْنى البُعدِ للإشعارِ بعلوِّ رتبتِه وبُعدِ منزلتِه.{ دِينُ ٱلقَيّمَةِ } أي دينُ الملةِ القيمةِ، وقُرِىءَ الدينُ القيمةُ على تأويلِ الدينِ بالملةِ. هذا وقد قيلَ: قولُه تعالى: { لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } إلى قولِه كتبٌ قيمةٌ حكايةٌ لما كانُوا يقولونَهُ قبلَ مبعثِه عليهِ السَّلامُ من أنَّهم لا ينفكونَ عنْ دينِهم إلى مَبْعثِه ويعدون أنْ ينفكُّوا عنه حينئذٍ ويتفقوا على الحقِّ وقولُه تعالى: { وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } الخ بـيانٌ لإخلافِهم الوعدَ وتعكيسِهم الأمرَ بجعلِهم ما هُو سببٌ لانفكاكِهم عن دينِهم الباطلِ حسبَما وعدُوه سبباً لثباتِهم عليهِ وعدمِ انفكاكِهم عنه ومثلُ ذلكَ بأنْ يقولَ الفقيرُ الفاسقُ لمن يعظهُ لا أنفكُّ عمَّا أنَا فيه حتَّى أستغني فيستغني فيزدادُ فسقاً فيقولَ له واعظُه لم تكنْ منفكَّاً عن الفسقِ حتى توسرَ وما عكفتَ على الفسقِ إلا بعدَ اليسارِ، وأنت خبـيرٌ بأنَّ هَذا إنَّما يتسنّى بعد اللَّتيا والتي على تقديرِ أنْ يرادَ بالتفرقِ تفرقُهم عن الحقِّ بأنْ يقال التفرقُ عن الحقِّ مستلزمٌ للثباتِ على الباطلِ فكأنَّه قيلَ: وما أجمعُوا على دينِهم إلا منْ بعدِ ما جاءتْهُم البـينةُ وأما على تقديرِ أنْ يُرادَ به تفرقُهم فرقاً فمنُهم من آمنَ ومنُهم من أنكرَ ومنُهم من عرفَ وعاندَ كَمَا جوَّزه القائلُ فلا فتأملْ.