التفاسير

< >
عرض

فَحَمَلَتْهُ فَٱنْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً
٢٢
فَأَجَآءَهَا ٱلْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ قَالَتْ يٰلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً
٢٣
فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً
٢٤
وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً
٢٥
فَكُلِي وَٱشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلبَشَرِ أَحَداً فَقُولِيۤ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً
٢٦
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يٰمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً
٢٧
يٰأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً
٢٨
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً
٢٩
قَالَ إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً
٣٠
وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً
٣١
وَبَرّاً بِوَٰلِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً
٣٢
وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً
٣٣
-مريم

مقاتل بن سليمان

{ فَحَمَلَتْهُ } أمه مريم عليها السلام، وهي ابنة ثلاث عشرة سنة، ومكثت مع عيسى، عليه السلام، ثلاثاً وثلاثين سنة، وعاشت بعدما رفع عيسى ست سنين، فماتت ولها اثنتان وخمسون سنة، فحملته أمه في ساعة واحدة، وصور في ساعة واحدة، وأرضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها، وقد كانت حاضت حيضتين قبل حمله، { فَٱنْتَبَذَتْ بِهِ }، يعني فانفردت بعيسى صلى الله عليه وسلم، { مَكَاناً قَصِيّاً } [آية: 22]، يعني نائياً من أهلها من وراء الحيل.
{ فَأَجَآءَهَا ٱلْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ }، يعني فألجأها، ولم يكن لها سعف، { قَالَتْ } مريم: { يٰلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا }، الولد حياء من الناس، ثم قالت: { وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } [آية: 23]، يعني كالشيء الهالك الذي لا يذكر فينسى.
{ فَنَادَاهَا } جبريل، عليه السلام، { مِن تَحْتِهَآ }، يعني من أسفل منها في الأرض، وهي فوقه على رابية، وجبريل، عليه السلام، يناديها بهذا الكلام: { أَلاَّ تَحْزَنِي }، ذلك حين تمنت الموت، { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } [آية: 24]، يعني الجدول الصغير من الأنهار.
وقال جبريل، عليه السلام، لها: { وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ }، يعني وحركي إليك، { بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً } [آية: 25]، يعني بالجني ما ترطب به من البسر، وكانت شجرة يابسة، فاخضرت وهي تنظر، ثم أجري الله عز وجل لها نهراً من الأردن حتى جاءها، فكان بينهما وبين جبريل، عليه السلام، وهذا كلام جبريل لها، وإنما جعل الله عز وجل ذلك لتؤمن بأمر عيسى صلى الله عليه وسلم ولا تعجب منه.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا الهذيل، قال: قال مقاتل: وأخبرت عن ليث بن أبي سليم، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله: { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً }، يعني صمتاً.
{ فَكُلِي } من النخلة، { وَٱشْرَبِي } من الماء العذب، { وَقَرِّي عَيْناً } بالولد، { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلبَشَرِ أَحَداً فَقُولِيۤ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً }، يعني صمتاً، { فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً } [آية: 26] في عيسى صلى الله عليه وسلم.
{ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا } بالولد، { تَحْمِلُهُ } إلى بنى إسرائيل في حجرها ملفوفاً في خرق، { قَالُواْ يٰمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } [آية: 27]، يقول: أتيت أمراً منكراً.
{ يٰأُخْتَ هَارُونَ } الذي هو أخو موسى. حدثنا عبيد الله، قال: حدثني أبي، عن الهذيل، قال: قال مقاتل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إنما عنوا هارون أخا موسى؛ لأنها كانت من نسله" ، { مَا كَانَ أَبُوكِ } عمران، { ٱمْرَأَ سَوْءٍ }، يعني بزان، كقوله سبحانه: { مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوۤءًا } [يوسف: 25]، يعني الزنا، وكقوله سبحانه: { مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ } [يوسف: 51]، وكان عمران من عظماء بنى إسرائيل، { وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ } جنة، { بَغِيّاً } [آية: 28] بزانية، فمن أين هذا الولد؟
{ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ }، يعني إلى ابنها عيسى صلى الله عليه وسلم أن كلموه، { قَالُواْ }، قال قومها: { كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ }، يعني من هو، { فِي ٱلْمَهْدِ }، يعني في حجر أمه ملفوفاً في خرق، { صَبِيّاً } [آية: 29]، فدنا زكريا من الصبي، فقال: تكلم يا صبى بعذرك إن كان لك عذر.
فـ{ قَالَ } الصبى، وهو يومئذ ولد، { إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ }، وكذبت النصارى فيما يقولون، فأول ما تكلم به الصبي أنه أقر لله بالعبودية، { آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ }، يعني أعطاني الإنجيل فعلمنيه، { وَجَعَلَنِي نَبِيّاً } [آية: 30].
{ وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً }، يعني معلماً مؤدباً في الخير، { أَيْنَ مَا كُنتُ } من الأرض، { وَأَوْصَانِي بـِ } إقامة { ِٱلصَّلاَةِ وَ } إيتاء { وَٱلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً } [آية: 31].
{ وَبَرّاً بِوَالِدَتِي }، يقول: وأوصاني أن أكون براً بوالدتي، يعني مطيعاً لأمي مريم، { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً }، يعني متكبراً عن عبادة الله، { شَقِيّاً } [آية: 32]، يعني عاصياً لله عز وجل.
{ وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ }، فلما ذكر الوالدة، ولم يذكر الوالد، ضمه زكريا إلى صدره، وقال: أشهد أنك عبد الله ورسوله، { وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ }، يعني حين ولدت، { وَيَوْمَ أَمُوتُ }، يعني وحين أموت، { وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } [آية: 33]، يعني وحين أبعث حياً بعد الموت في الآخرة، ثم لم يتكلم بعد ذلك حتى كان بمنزلة غيره من الصبيان، فلما قال: { وَبَرّاً بِوَالِدَتِي }، ضمه زكريا.