التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ ٱثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ ٱلصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ ٱلآَثِمِينَ
١٠٦
فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا ٱسْتَحَقَّآ إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا ٱعْتَدَيْنَآ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ
١٠٧
ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يَأْتُواْ بِٱلشَّهَادَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَآ أَوْ يَخَافُوۤاْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ وَٱسْمَعُواْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ
١٠٨
-المائدة

مقاتل بن سليمان

{ يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ }، نزلت فى بديل بن أبى مارية مولى العاص ابن وائل السهمى، كان خرج مسافراً فى البحر إلى أرض النجاشى ومعه رجلان نصرانيان، أحدهما يسمى تميم بن أوس الدارى، وكان من لخم، وعدى بن بندا، فمات بديل وهم فى البحر، فرمى به فى البحر، قال: { حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ }، وذلك أنه كتب وصيته، ثم جعلها فى متاعه، ثم دفعه إلى تميم وصاحبه، وقال لهما: أبلغا هذا المتاع إلى أهلى، فجاءا ببعض المتاع وحبسا جاماً من فضة مموهاً بالذهب، فنزلت: { يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ }، يقول: عند الوصية يشهدون وصيته.
{ ٱثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } من المسلمين فى دينهما، { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ }، يعنى من غير أهل دينكم النصرانيين، تميم الدارى وعدى بن بندا، { إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ } يا معشر المسلمين للتجارة، { فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ }، يعنى بديل بن أبى مارية حين انطلق تاجراً فى البحر، وانطلق معه تميم وعدى صاحباه، فحضره الموت، فكتب وصيته، ثم جعلها فى المتاع، فقال: أبلغا هذا المتاع إلى أهلى، فلما مات بديل، قبضا المتاع، فأخاذا منه ما أعجبهما، وكان فيما أخذا إناء من فضة فيه ثلاثمائة مثقال منقوش مموه بالذهب، فلما رجعا من تجارتهما دفعا بقية المال إلى ورثته، ففقدوا بعض متاعه، فنظروا إلى الوصية، فوجدوا المال فيه تاماً لم يبع منه، ولم يهب، فكلموا وتميماً وصاحبه، فسألوهما: هل باع صاحبنا شيئاً أو اشترى شيئاً فخسر فيه، أو طال مرضه فأنفق على نفسه؟ فقال: لا، قالوا: فإنا قد فقدنا بعض ما أبدى به صاحبنا، فقالا: ما لنا بما أبدى، ولا بما كان فى وصيته علم، ولكنه دفع إلينا هذا المال، فبلغناكم إياه.
فرفعوا أمرهم إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فنزلت: { يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ }، يعنى بديلب بن أبى مارية، { ٱثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ }، يعنى من المسلمين، عبدالله بن عمرو بن العاص، والمطلب بن أبى وداعة السهميان، { وْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } من غير أهل دينكم، يعنى النصرانيين، { إِنْ أَنتُمْ } معشر المسلمين { ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ } تجاراً { فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ }، يعنى بديل بن أبى مارية مولى العاص بن وائل السهمى، { تَحْبِسُونَهُمَا }، يعنى النصرانيين تقيمونهما، { مِن بَعْدِ ٱلصَّلاَةِ } صلاة العصر، { فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ }، فيحلفان بالله، { إِنِ ٱرْتَبْتُمْ }، يعنى إن شككتم، نظيرها فى النساء القصرى، أن المال كان أكثر من هذا الذى أتيناكم به، { لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً }، يقول: لا نشترى بأيماننا عرضاً من الدنيا، { وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ }، يقول: ولو كان الميت ذا قرابة منا، { وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذَاً } إن كتمنا شيئاً من المال، { لَّمِنَ ٱلآَثِمِينَ } [آية: 106] بالله عز وجل.
فحلفهما النبى صلى الله عليه وسلم عند المنبر بعد صلاة العصر، فحلفا أنهما لم يخونا شيئاً من المال، فخلى سبيلهما، فلما كان بعد ذلك، وجدوا الإناء الذى فقدوه عند تميم الدارى، قالوا: هذا من آنية صاحبنا الذى كان أبدى بها، وقد زعمتما أنه لم يبع ولم يشتر ولم ينفق على نفسه، فقالا: قد كنا اشتريناه منه، فنسينا أن نخبركم به، فرفعوهما إلى النبى صلى الله عليه وسلم الثانية، فقالوا: يا رسول الله، إنا وجدنا مع هذين إناء من فضة من متاع صاحبنا، فأنزل الله عز وجل: { فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا ٱسْتَحَقَّآ إِثْماً }، يقول: فإن اطلع على أنهما، يعنى النصرانيين كتما شيئاً من المال أو خانا، { فَآخَرَانِ } من أولياء الميت، يعنى عبدالله بن عمرو بن العاص، والمطلب بن أبى وداعة السهميان، { يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا }، يعنى مقام النصرانيين، { مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَحَقَّ } الإثم، { عَلَيْهِمُ ٱلأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ }، يعنى فيحلفان بالله فى دبر صلاة العصر أن الذى فى وصية صاحبنا حق، وأن المال كان أكثر مما أتيتمانا به، وأن هذا الإناء لمن متاع صاحبنا الذى خرج به معه، وكتبه فى وصيته، وأنكما خنتما، فذلك قوله سبحانه: { لَشَهَادَتُنَا }، يعنى عبدالله بن عمرو بن العاص، والمطلب، { أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا }، يعنى النصرانيين، { وَمَا ٱعْتَدَيْنَآ } بشهادة المسلمين من أولياء الميت، { إِنَّا إِذاً لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ } [آية: 107].
{ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ }، يعنى أجدر، نظيرها فى النساء، { أَن يَأْتُواْ }، يعنى النصرانيين، { بِٱلشَّهَادَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَآ }، كما كانت ولا يكتمان شيئاً، { أَوْ يَخَافُوۤاْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ }، يقول: أو يخافوا أن يطلع على خيانتهم فيرد شهادتهما بشهادة الرجلين المسلمين من أولياء الميت، فحلف عبدالله والمطلب كلاهما أن الذى فى وصية الميت حق، وأن هذا الإناء من متاع صاحبنا، فأخذوا تميم بن أوس الدارى، وعدى بن بندا النصرانيين بتمام ما وجدوا فى وصية الميت حين اطلع الله عز وجل على خيانتهما فى الإناء، ثم وعظ الله عز وجل المؤمنين ألا يفعلوا مثل هذا، وألا يشهدوا بما لم يعاينوا ويروا، فقال سبحانه يحذرهم نقمته، { وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ وَٱسْمَعُواْ } مواعظه، { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ } [آية: 108]،
"وأن تميم بن أوس الدارى اعترف بالخيانة، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: ويحك يا تميم، أسلم يتجاوز الله عنك ما كان فى شركك" ، فأسلم تميم الدارى وحسن إسلامه، ومات عدى بن بندا نصرانياً.