التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٦٧
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ ٱلصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذٰلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
١٦٨
فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ ٱلْكِتَٰبَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
١٦٩
وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلْكِتَابِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُصْلِحِينَ
١٧٠
وَإِذ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
١٧١
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ
١٧٢
أَوْ تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ
١٧٣
وَكَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
١٧٤
-الأعراف

مقاتل بن سليمان

{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ }، يعني قال ربك: { لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ }، يعني بنى إسرائيل من يسومهم سوء العذاب، فبعث الله المسلمين عليهم، { إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } ما دامت الدنيا، { مَن يَسُومُهُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ }، يعني يعذبهم شدة العذاب، يعني القتل، والجزية، { إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [آية: 167].
{ وَقَطَّعْنَاهُمْ }، يعني وفرقناهم { فِي ٱلأَرْضِ أُمَماً }، يعني فرقاً، يعني بنى إسرائيل، { مِّنْهُمُ ٱلصَّالِحُونَ }، يعني المؤمنين، { وَمِنْهُمْ دُونَ ذٰلِكَ }، يعني دون الصالحين، فهم الكفار، { وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ }، يقول: ابتليناهم بالخصب والشدة، { لَعَلَّهُمْ }، يعني لكى { يَرْجِعُونَ } [آية: 168] إلى التوبة.
{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ }، يعني من بعد بنى إسرائيل، { خَلْفٌ } السوء وهم اليهود، { وَرِثُواْ ٱلْكِتَابَ }، يعني ورثوا التوراة عن أوائلهم وآبائهم، { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ }، وهي الدنيا؛ لأنها أدنى من الآخرة، يعني الرشوة في الحكم، { وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا }، فكانوا يرشون بالنهار، ويقولون: يغفر لنا بالليل، { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ }، يعني رشوة مثله ليلاً، { يَأْخُذُوهُ }، ويقولون: يغفر لنا بالنهار، يقول الله: { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ ٱلْكِتَابِ }، يعني بغير ما يقولون: لقد أخذ عليهم في التوراة أن لا يستحلوا محرماً، و { أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } في التوراة، { وَدَرَسُواْ }، يعني وقرأوا { مَا فِيهِ }، ما في التوراة، { وَٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ }، يعني الجنة، { خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ }، استحلال المحارم، { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [آية: 169].
ثم ذكر مؤمنيهم، فقال: { وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلْكِتَابِ }، يعني يتمسكون بالتوراة ولا يحرفونه عن مواضعه، ولا يستحلون محرماً، { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُصْلِحِينَ } [آية: 170]، نزلت في ابن شلام وأصحابه.
{ وَإِذ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ }، يعني وإذ رفعنا الجبل { فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ }، وذلك أن موسى، عليه السلام، حين أتاهم بالتوراة، وجدوا فيها القتل، والرجم، والحدود، والتغليظ، أبوا أن يقبلوا التوراة، فأمر الله الجبل عند بيت المقدس، فانقطع من مكانه، فقام فوق رءوسهم، فأوحى الله إلى موسى أن قل لهم: إن لم يقروا بالتوراة، طرحت عليهم الجبل، وأرضخ به رءوسهم، فلما رأوا ذلك أقروا بالتوراة، ورجع الجبل إلى مكانه، فذلك قوله: { وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ }، يعني وأيقنوا أن الجبل واقع بهم، يعني عليهم، { خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ }، ما أعطيناكم من التوراة بالجد والمواظبة، { وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ }، يقول: واحفظوا ما فيه من أمره ونهيه، { لَعَلَّكُمْ }، يعني لكى { تَتَّقُونَ } [آية: 171] المعاصي.
{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ }، يقول: وقد أخذ ربك من بنى آدم بنعمان عند عرفات من ظهورهم، { ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } بإقرارهم، { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ } أنت ربنا، وذلك أن الله عز وجل مسح صفحة ظهر آدم اليمنى، فأخرج منه ذرية بيضاء كهيئة الذر يتحركون، ثم مسح صفحة ظهره اليسرى، فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر، وهم ألف أمة، قال: يا آدم، هؤلاء ذريتك أخذنا ميثاقهم على أن يعبدوني ولا يشركوا بي شيئاً وعلىَّ رزقهم، قال آدم: نعم يا رب، فلما أخرجهم، قال الله: ألست بربكم؟ قالوا: بلى { شَهِدْنَآ } أنك ربنا، قال الله للملائكة: اشهدوا عليهم بالإقرار، قالت الملائكة: قد شهدنا، يقول الله في الدنيا لكفار العرب من هذه الأمة: { أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا } الميثاق الذي أخذ علينا { غَافِلِينَ } [آية: 172]، وأشهدهم على أنفسهم.
{ أَوْ تَقُولُوۤاْ } لئلا تقولوا: { إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا } ونقضوا الميثاق، { مِن قَبْلُ } شركنا، ولئلا تقولوا: { وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ }، فاقتدينا بهم وبهداهم، لئلا تقولوا: { أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ } [آية: 173]، يعني أفتعذبنا بما فعل المبطلون، يعني المكذبين بالتوحيد، يعنون آباءهم، كقوله:
{ { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [الزخرف: 23].
ثم أفاضهم إفاضة القدح، فقال للبيض: هؤلاء في الجنة برحمتي، فهم أصحاب اليمين، وأصحاب الميمنة، وقال للسود: هؤلاء للنار، ولا أبالي، فهم أصحاب الشمال، وأصحاب المشأمة، ثم أعادهم جميعاً في صلب آدم، عليه السلام، فأهل القبور محبسون حتى يخرج الله أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء، ثم تقوم الساعة، فذلك قوله:
{ لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ } يوم القيامة { { وَعَدَّهُمْ عَدّاً } [مريم: 94]، فمن مات منهم صغيراً، فله الجنة بمعرفته بربه، ومن بلغ منهم العقل أخذ أيضاً ميثاقه بمعرفته لربه، والطاعة له، فمن لم يؤمن إذا بلغ العقل لم يغن عنه الميثاق الأول شيئاً، وكان العهد والميثاق الأول حجة عليهم، وقال فيمن نقض العهد الأول: { { وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ } يعنى من وفاء، يعني أكثر ولد آدم، عليه السلام، { { وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ } [الأعراف: 102]، يعني لعاصين، { وَكَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ }، يعني هكذا نبين الآيات في أمر الميثاق، { وَلَعَلَّهُمْ }، يعني لكى { يَرْجِعُونَ } [آية: 174] إلى التوبة.