التفاسير

< >
عرض

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
٥
-الفاتحة

الكشف والبيان

{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } رجع من الخبر الى الخطاب على التلوين. وقيل فيه إضمار، أي قولوا: { إِيَّاكَ }. و { أَيَّا } كلمة ضمير، لكنه لا يكون إلاّ في موضع النصب، والكاف في محلّ الخفض بإضافة إيا إليها، وخصّ بالإضافة إلى الضمير؛ لأنه يضاف إلى الاسم المضمر ألا يقول الشاعر:

فدعني وإيا خالدلأقطعن عُرْيَ نياطه

وحكى الخليل عن العرب: إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإياكم.
ويستعمل مقدّماً على الفعل مثل (إياك أعني) و (إياك أسأل)، ولا يستعمل مؤخّراً على الفعل إلاّ أنّ..... به حين الفعل، فيقال: ما عبدت إلاّ إياك ونحوها. وقال أبو ميثم سهل ابن محمد: إياك ضمير منفصل، والضمير ثلاثة أقسام:
ضمير متّصل نحو الكاف والهاء والياء في قولك: أكرمك، وأكرمه، وأكرمني. سمي بذلك لاتصاله بالفعل.
وضمير منفصل نحو إياك وإياه وإياي. سمي بذلك لانفصاله عن الفعل.
وضمير مستكن، كالضمير في قولك: قعد وقام. سمي بذلك لأنه استكن في الفعل ولم يُستبقَ في اللفظ ويعمّ أن فيه ضمير الفاعل؛ لأن الفعل لا يقوم إلاّ بفاعل ظاهر أو مضمر.
وقال أبو زيد: إنما هما ياءان: الأولى للنسبة والثانية للنداء، تقديرها: (أي يا)، فأُدغمت وكسرت الهمزة لسكون الياء. وقال أبو عبيد: أصله (أو ياك)، فقلبت الواو ياءً فأدغموه، وأصله من (آوى، يؤوي، إيواء) كأن فيه معنى الانقطاع والقصد. وقرأ الفضل الرقاشي (أياك) بفتح الألف وهي لغة.
وإنما لم يقل: نعبدك (لأنه) يصحّ في العبارة، وأحسن الإشارة؛ لأنهم إذا قالوا: إياك نعبد، كان نظرهم منه إلى العبادة لا من العبادة إليه. وقوله: { نَعْبُدُ } أي نوحد ونخلص ونطيع ونخضع، والعبادة رياضة النفس على حمل المشاق في الطاعة. وأصلها الخضوع والانقياد والطاعة والذلة، يقال: طريق معبّد إذا كان مذللا موطوءاً بالأقدام. قال طرفة:

تبارى عتاقاً ناجيات وأتبعتوظيفاً وظيفاً فوق مور معبّد

وبعير معبد إذا كان مطلياً بالقطران، قال طرفة:

إلى أن تحامتني العشيرة كلّهاوأفردت إفراد البعير المعبّد

وسمّي العبد عبداً لذلّته وانقياده لمولاه.
{ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }: نستوفي ونطلب المعونة على عبادتك وعلى أمورنا كلّها، يقال: استعنته واستعنت به، وقرأ يحيى بن رئاب: (نَسْتَعِينُ) بكسر النون. قال الفرّاء: تميم وقيس وأسد وربيعة يكسرون علامات المستقبل إلاّ الياء، فيقولون إستعين ونِستعين ونحوها، ويفتحون الياء لأنها أخت الكسرة. وقريش وكنانة يفتحونها كلّها وهي الأفصح والأشهر.
وإنّما كرّر { إِيَّاكَ }؛ ليكون أدلّ على الإخلاص والاختصاص والتأكيد لقول الله تعالى خبراً عن موسى:
{ { كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً } [طه: 33-34]، ولم يقل: كي نسبحك ونذكرك كثيراً.
وقال الشاعر:

وجاعل الشمس مصراً لا خفاء بهبين النهار وبين الليل قد فصلا

ولم يقل بين النهار والليل. وقال الآخر:

بين الأشجّ وبين قيس باذخبخ بخ لوالده وللمولود

وقال أبو بكر الورّاق: إياك نعبد لأنك خلقتنا، وإياك نستعين لأنك هديتنا وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا الحسن علي بن عبد الرَّحْمن الفرّان، وقد سئل عن الآية فقال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } لأنك الصانع،و { إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } لأن المصنوع لا غنى به عن الصانع، { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } لتدخلنا الجنان، و { إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } لتنقذنا من النيران، { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } لأنّا عبيد و { إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } لأنك كريم مجيد، { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } لأنك المعبود بالحقيقة و { إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } لأننا العباد بالوثيقة.