التفاسير

< >
عرض

صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ
٧
-الفاتحة

الكشف والبيان

{ صِرَاطَ } بدل من الأول { ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يعني: طريق الذين أنعمت عليهم بالتوفيق والرعاية، والتوحيد والهداية، وهم الأنبياء والمؤمنون الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: { { وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً } [النساء: 69].
قال ابن عباس: هم قوم موسى وعيسى من قبل أن يغيّروا نعم الله عليهم.
وقال شهر بن حوشب هم أصحاب الرسول صلى الله عليه ورضي عنهم وأهل بيته (عليهم السلام). وقال عكرمة: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }) بالثبات على الإيمان والإستقامة.
وقال علي بن الحسين بن داود: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بالشكر على السرّاء والصبر على الضرّاء. وقال.... بن....: بما قد سنّه محمد صلى الله عليه وسلم وقال الحسين بن الفضل: يعني أتممت عليهم النعمة فكم من منعم عليه.....
وأصل النعمة المبالغة والزيادة، يقال: دققت الدواء فأنعمت دقّه أي بالغت في دقه، ومنه قول العرب النبي صلى الله عليه وسلم
"إن أهل الجنة يتراءون الغرفة منها كما يتراءون الكوكب الدرّي الشرقي أو الغربي في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما" .
أي زادا عليه. وقال أبو عمرو: بالغاً في الخير.
وقرأ الصادق: (صراط من أنعمت عليهم)، وبه قرأ عمرو بن الزبير وعلي، حرف اللام يجر ما بعده. وفي { عَلَيْهِمْ } سبع قراءات:
الأولى: عليهم ـ بكسر الهاء وجزم الميم ـ وهي قراءة العامّة.
والثانية: عليهم ـ بضم الهاء وجزم الميم ـ وهي قراءة الأعمش وحمزة. وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعمر (رضي الله عنه).
والثالثة: عليهم ـ بضم الهاء والميم وإلحاق الواو ـ وهي قراءة عيسى بن عمر وابن أبي إسحاق.
والرابعة: عليهمو - بكسر الهاء وضم الميم وإلحاق الواو ـ وهي قراءة ابن كثير والأعرج.
والخامسة: عليهم ـ بكسر الهاء والميم وإلحاق الياء ـ وهي قراءة الحسن.
والسادسة: عليهم ـ بكسر الهاء وضم الميم مضمومة مختلسة ـ وهي رواية عبد الله بن عطاء الخفّاف عن أبي عمرو.
والسابعة: عليهم ـ بكسر الهاء والميم ـ وهي قراءة عمرو بن حامد.
فمن ضمّ الهاء ردّه إلى الأصل لأنه لو أفرد كان مضموماً عند الابتداء به، ومن كسره فلأجل الياء الساكنة. ومن كسر الهاء وجزم الميم فإنه يستثقل الضمّ مع مجاورة الياء الساكنة، والياء أخت الكسرة والخروج من الضم إلى الكسر ثقيل. ومن ضمّ الهاء والميم أتبع فيه الضمّة. ومن كسر الهاء وضمّ الميم فإنه كسر الهاء لأجل الياء وضمّ الميم على الأصل، والاختلاس للاستخفاف، وإلحاق الواو والياء للإتباع والله أعلم. قال الشاعر في الميم المختلسة:

والله لولا شعبة من الكرموسطة في الحي من خال وعم
لكنت فيهم رجلا بلا قدم

{ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ } غير: صفة الذين. والذين معرفة ولا توصف المعارف بالنكرات ولا النكرات بالمعارف إلاّ إن الذين ليس بمعرفة موقتة ولكنّه بمنزلة قولك: إني لأمرُّ بالصادق غير الكاذب، كأنك قلت: من يصدق لا من يكذب. ولا يجوز: مررت بعبد الله غير الظريف.
ومعنى كلامه: غير صراط الذين غضبت { عَلَيْهِم }.
في معنى الغضب
واختلفوا في معنى الغضب من الله عزّ وجلّ، فقال قوم: هو إرادة الانتقام من العصاة. وقيل: هو جنس من العقاب يضادّ والرضا. وقيل: هو ذم العصاة على قبح أفعالهم.
ولا يلحق غضب الله تعالى العصاة من المؤمنين بل يلحق الكافرين.
{ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } عن الهدى.
وأصل الضلال الهلاك، يقال ضلَّ الماء في اللبن إذا خفي وذهب، و: رجل ضالّ إذا أخطأ الطريق، و: مضلِّل إذا لم يتوجّه لخير، قال الشاعر:

ألم تسأل فتخبرك الديارعن الحي المضلل أين ساروا

قال الزجاج وغيره: وإنما جاز أن يعطف بـ (لا) على غير؛ لأن غير متضمِّن معنى النفي؛ فهو بمعنى لا، مجازه: غير المغضوب عليهم وغير الضالين كما تقول: فلان غير محسن ولا مجمل. فإذا كان (غير) بمعنى سوى لم يجز أن يعطف عليها ب (لا)؛ لأنه لا يجوز في الكلام عندي سوى عبد الله ولا زيد. وروى الخليل بن أحمد عن ابن كثير: { غَيْرَ ٱلْمَغْضُوبِ } نصباً.
وقرأ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهما ـ: (وغير الضالين)، وقرأ السختياني (ولأ الضالئين) بالهمزة؛ لالتقاء الساكنين، والله أعلم. فأما التفسير:
فأخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أحمد بن عبد الله المزني، حدّثنا محمد بن عبد الله بن سليمان، أخبرنا أحمد بن حنبل ومحمد بن دينار قالا: حدّثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن سماك قال: سمعت عباد بن حبيش عن عديّ بن حاتم
"عن النبي صلى الله عليه وسلم { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } قال: اليهود، { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } قال: النصارى" .
وأخبرنا أبو القاسم الحبيبي، أخبرنا أبو زكريا العنبري، حدّثنا محمد بن عبد الله الوراق، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن بديل العقيلي عن عبد الله بن شقيق "أنه أخبره من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى على فرسه فسأله رجل من القيْن، فقال: يا رسول الله، من هؤلاء الذين يقاتلونك؟ قال: المغضوب عليهم، وأشار إلى اليهود. فقال: من هؤلاء الطائفة الأخرى؟ فقال: الضالون، وأشار إلى النصارى" .
وتصديق هذا الحديث حكم الله تعالى بالغضب على اليهود في قوله: { { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [المائدة: 60]، وحكم الضلال على النصارى في قوله: { { وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ } [المائدة: 77].
وقال الواقدي: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } بالمخالفة والعصيان، { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } عن الدين والإيمان.
وقال التستري: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } البدعة، { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } عن السنة.
فصل في آمين
والسنّة المستحبة أن يقول القارئ بعد فراغه من قراءة فاتحة الكتاب: آمين؛ سواء كان في الصلاة أو غير الصلاة؛ لما أخبرنا عبد الله بن حامد الاصفهاني، أخبرنا محمد بن جعفر المطيري، حدّثنا الحسن بن علي بن عفان العامري، حدّثنا أبو داود عن سفيان، وأخبرنا عبد الله قال: وأخبرنا عبدوس بن الحسين، حدّثنا أبو حاتم الرازي، حدّثنا ابن كثير، أخبرنا سفيان عن سلمة عن حجر أبي العنبس الحضرمي عن أبي قايل بن حجر قال:
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ: { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }، قال: آمين، ورفع بها صوته" .
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لقّنني جبرائيل عليه السلام آمين عند فراغي من فاتحة الكتاب" .
وقال "إنّه كالخاتم على الكتاب" وفيه لغتان: أمين بقصر الألف، وأنشد:

تباعد منّي فعطل إذ سألتهأمين فزاد الله ما بيننا بعداً

وآمين بمد الألف وأنشد:

يا ربّ لا تسلبني حبّها أبداًويرحم الله عبداً قال آمينا

وهو مبني على الفتح مثل أين.
واختلفوا في تفسيره فأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر، أخبرنا أبو العباس محمد ابن إسحاق بن أيوب، أخبرنا الحسن بن علي بن زياد، حدّثنا عبيد بن يعيش عن محمد ابن الفضل عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال:
"سألت رسول الله صلى الله عليه وآله عن معنى آمين قال: ربِّ افعل" .
وقال ابن عباس وقتادة: معناه: كذلك يكون.
وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان، أخبرنا مكي بن عبدان، حدّثنا عبد الله بن حاتم، حدّثنا عبد الله بن نمير، أخبرنا سفيان عن منصور عن هلال بن يساف قال: آمين اسم من أسماء الله تعالى، و(بذلك) قال مجاهد.
وقال سهل بن عبد الله: معناه: لا يقدر على هذا أحد سواك. وقال محمد بن علي النهدي: معناه لا تخيّب رجانا.
وقال عطية العوفي: آمين كلمة ليست بعربية، إنما هي عبرية أو سريانية ثمّ تكلمت به العرب فصار لغة لها. وقال عبد الرَّحْمن بن زيد: آمين كنز من كنوز العرش لا يعلم تأويله أحد إلاّ الله عزّ وجلّ.
وقال أبو بكر الورّاق: آمين قوة للدعاء واستنزال للرحمة.
وقال الضحّاك بن مزاحم: آمين أربعة أحرف مقتطعة من أسماء الله تعالى، وهو خاتم رب العالمين يختم به براءة أهل الجنة وبراءة أهل النار، وهي الجائزة التي منها يجوزون إلى الجنة والنار.
يدلّ عليه ما أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر، حدّثنا أبو الحسن محمد بن محمود بن عبد الله، حدّثنا محمد بن علي الحافظ، حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حمويه، حدّثنا سعيد بن جبير، حدّثنا المؤمل بن عبد الرَّحْمن بن عياش الثقفي، عن أبي أمية بن يعلى الثقفي، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة
"أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: آمين خاتم رب العالمين على عباده المؤمنين" .
أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون بن الفضل بقراءتي عليه في صفر سنة ثمان وأربعمائة أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين بن الشرقي، حدّثنا محمد بن يحيى وعبد الرَّحْمن بن بِشْرْ وأحمد بن يوسف قالوا: حدّثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمّر عن همّام بن منبّه قال: حدّثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء فوافق إحداهما الأخرى غُفر له ما تقدم من ذنبه" .
وحدّثنا أبو القاسم الحسن بن محمّد بن جعفر، أخبرنا محمّد أبو الحسن محمد بن الحسن بهراة، حدّثنا رجاء بن عبد الله، حدّثنا مالك بن سليم، عن سعيد بن سالم، عن ابن جريج عن عطاء قال: آمين دعاء [وعنه عن] النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما حسدكم اليهود على شيء، كما حسدوكم على آمين، وتسليم بعضكم على بعض" .
وقال وهب بن منبه: آمين على أربع أحرف، يخلق الله تعالى من كل حرف ملكاً يقول: اللهم اغفر لمن قال: آمين.
فصل في أسماء هذه السورة
هي عشرة، وكثرة الأسماء تدلّ على شرف المسمّى:
الأول: فاتحة الكتاب، سمّيت بذلك لأنه يفتتح بها في المصاحف والتعليم والقراءة في الصلاة، وهي مفتتحة بالآية التي تفتتح بها الامور تيمّناً وتبرّكاً وهي التسمية. وقيل: سمّيت بذلك لأن الحمد فاتحة كل كتاب كما هي فاتحة القرآن. وقال الحسين بن الفضل: لأنها أول سورة نزلت من السماء.
والثاني: سورة الحمد، لأن فيها ذكر الحمد، كما قيل: سورة (الأعراف) و(الأنفال) و(التوبة) ونحوها.
والثالث: أُمّ الكتاب والقرآن؛ سمّيت بذلك لأنها أوّل القرآن والكتب المنزلة، فجميع ما أودعها من العلوم مجموع في هذه السورة؛ فهي أصل لها كالأم للطفل، وقيل: سمّيت بذلك؛ لأنها أفضل سور القرآن كما أن مكة سميت أُم القرى لأنها أشرف البلدان. وقيل: سمّيت بذلك لأنها مقدّمة على سور القرآن، فهي أصل وإمام لما يتلوها من السور، كما أن أُم القرى أصل جميع البلدان دحيت الأرض من تحتها. وقيل: سمّيت بذلك لأنها مجمع العلوم والخيرات، كما أن الدماغ يسمى أُمّ الرأس؛ لأنها مجمع الحواس والمنافع.
وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمّد المفسّر يقول: سمعت أبا بكر القفّال يقول: سمعت أبا بكر البريدي يقول: الأُم في كلام العرب: الراية ينصبها العسكر.
قال قيس بن الخطيم:

نصَبنا أُمّنا حتى ابذعرّواوصاروا بعد إلفتهم شلالا

فسمّيت أُم القرآن؛ لأن مفزع أهل الإيمان إليها كمفزع العسكر إلى الراية. والعرب تسمي الأرض أُمّاً؛ لأنّ معاد الخلق إليها في حياتهم وبعد مماتهم، قال أُمية بن أبي الصلت:

والأرض معقلنا وكانت أُمّنافيها مقابرنا وفيها نولد

وأنشدني أبو القاسم قال: أنشدنا أبو الحسين المظفّر محمد بن غالب الهمداني قال: أنشدنا أبو بكر بن الأنباري قال: أنشدنا أبي قال: أنشدني أحمد بن عبيدة:

نأوي إلى أُمّ لنا تعتصبكما وَلِها أنف عزيز وذنب
وحاجب ما إن نواريها الغصبمن السحاب ترتدي وتنتقب

يعني: نصبه كما وصف لها. وسميت الفاتحة أُمّاً لهذه المعاني. وقال الحسين بن الفضل: سميت بذلك؛ لأنها إمام لجميع القرآن تقرأ في كل [صلاة و] تقدم على كل سورة، كما أن أُمّ القرى إمام لأهل الإسلام. وقال ابن كيسان: سميت بذلك؛ لأنها تامة في الفضل.
والرابع: السبع المثاني، وسيأتي تفسيره في موضعه إن شاء الله.
والخامس: الوافية، حدّثنا أبو القاسم الحسن بن محمد النيسابوري، حدّثنا أبي عن أمّه عن محمد بن نافع السنجري، حدّثنا أبو يزيد محبوب الشامي، حدّثنا عبدالجبار بن العلاء قال: كان يسمي سفيان بن عُيينة فاتحة الكتاب: الوافية، وتفسيرها لأنها لا تنصف ولا تحتمل الاجتزاء إلاّ أن كل سورة من سور القرآن لو قرئ نصفها في ركعة والنصف الآخر في ركعة كان جائزاً، ولو نصفت الفاتحة وقرئت في ركعتين كان غير جائز.
والسادس: الكافية، أخبرنا أبو القاسم السدوسي، أخبرنا أبو جعفر محمد بن مالك المسوري، حدّثنا أبو عبد الله محمد بن عمران قال: حدّثنا سهيل بن (محمّد)، حدّثنا عفيف بن سالم قال: سألت عبد الله بن يحيى بن أبي كثير عن قراءة الفاتحة خلف الإمام فقال: عن الكافية تسأل؟
قلت: وما الكافية؟ قال: أما علمت أنها تكفي عن سواها، ولا يكفي سواها عنها. إياك أن تصلي إلاّ بها.
وتصديق هذا الحديث ما حدّثنا الحسن بن محمد بن جعفر المفسر، حدّثنا عبد الرَّحْمن بن عمر ابن مالك الجوهري بمرو، حدّثنا أبي، حدّثنا أحمد بن يسار، عن محمد بن عباد الاسكندراني عن أشهب بن عبد العزيز، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أمّ القرآن عوض عن غيرها وليس غيرها منها عوضاً" .
والسابع: الأساس، حدّثنا أبو القاسم الحسين بن محمد المذكر، حدّثنا أبو عمرو بن المعبّر محمد بن الفضل القاضي بمرو، حدّثنا أبو هريرة مزاحم بن محمد بن شاردة الكشي، حدّثنا جارود بن معاد، أخبرنا وكيع قال: إن رجلا أتى الشعبي فشكا إليه وجع الخاصرة، فقال: عليك بأساس القرآن. قال: وما أساس القرآن؟ قال: فاتحة الكتاب. قال الشعبي: سمعت عبد الله بن عباس غير مرّة يقول: إن لكل شيء أساساً وأساس العمارة مكة؛ لأنها منها دُحيت الأرض وأساس السماوات غريباً، وهي السماء السابعة، وأساس الأرض عجيباً، وهي الأرض السابعة السفلى، وأساس الجنان جنة عدن، وهي سرّة الجنان، وعليها أُسّست الجنان، وأساس النار جهنم، وهي الدركة السابعة السفلى وعليها أُسست الدركات، وأساس الخلق آدم عليه السلام، وأساس الأنبياء نوح عليه السلام، وأساس بني اسرائيل يعقوب، وأساس الكتب القرآن، وأساس القرآن الفاتحة، وأساس الفاتحة { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }. فإذا اعتللت أو اشتكيت فعليك بالفاتحة تشفى.
والثامن: الشفاء، حدّثنا أبو القاسم بن أبي بكر المكتّب لفظاً، حدّثنا أبو علي حامد بن محمد بن عبد الله الرفّاء، أخبرنا محمد بن أيوب الواقدي، حدّثنا أبو عمرو بن العلاء، حدّثنا سلام الطويل، عن زيد العمي، عن محمد بن سيرين، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"فاتحة الكتاب شفاء من كل سمّ" .
وأخبرنا محمد بن القاسم الفقيه، حدّثنا أبو الحسين محمّد بن الحسن الصفار الفقيه، حدّثنا أبو العباس السرّاج، حدّثنا قتيبة بن سعيد، حدّثنا معاوية بن صالح، عن أبي سليمان قال: "مرّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواتهم على رجل مقعد متربّع فقرأ بعضهم في أذنه شيئاً من القرآن فبرئ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أُمّ القرآن، وهي شفاء من كل داء" .
أخبرنا أحمد بن أُبيّ الخوجاني، أخبرنا الهيثم بن كليب الشامي، حدّثنا عيسى بن أحمد العسقلاني، أخبرنا النضر بن شميل، أخبرنا سعيد بن الحجاج، عن عبد الله بن أبي السفر، عن الشعبي عن خارجة بن الصلت التميمي، عن عمّه قال: "جاء عمي من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرّوا بحيّ من الأعراب، فقالوا: انّا نراكم قد جئتم من عند هذا الرسول، إنّ عندنا رجلا مجنوناً مخبولا، فهل عندكم من دواء أو رقية؟ فقال عمّي: نعم. فجيىء به، فجعل عمي يقرأ أُمّ القرآن وبزاقه فإذا فرغ منها بزق فجعل ذلك ثلاثة أيام، فكأنّما أهبط من جبال، قال عمي: فأعطوني عليه جعلا، فقلت: لا نأكله حتى نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال: كُلهُ، فمن الحلّ تُرقيه بذلك. لقد أكلت بِرُقية حق" .
والتاسع: الصلاة، قد تواترت الأخبار بأن الله تعالى سمّى هذه السورة، وهو ما يعرف انّه لا صلاة إلاّ بها.
أخبرنا عبد الله بن حامد وأحمد بن يوسف بقراءتي عليهما قالا: أخبرنا مكي بن عبد الله، حدّثنا محمد بن يحيى قال: وفيما قرأته على ابن نافع، وحدّثنا مطرف عن مالك بن أنس عن العلاء بن عبد الرَّحْمن أنه سمع أبا السائب مولى هشام بن زهرة يقول: سمعت أبا هريرة يقول:
"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عزّ وجلّ: قسمت الصلاة ـ يعني هذه السورة ـ بيني وبين عبدي نصفين؛ فنصفها لي ونصفها لعبدي، فإذا قرأ العبد: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } يقول الله: حمدني عبدي. وإذا قال العبد: { الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } يقول الله تعالى: أثنى عليّ عبدي. وإذا قال العبد: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } يقول الله: مجّدني عبدي. وإذا قال العبد: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قال الله: هذه الآية بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } إلى آخرها قال: هذه لعبدي ولعبدي ما سأل" .
والعاشر: سورة تعلم المسألة؛ لأن الله تعالى علّم فيه عباده آداب السؤال، فبدأ بالثناء ثم الدعاء، وذلك سبب النجاح والفلاح.
القول في وجوب قراءة هذه السورة في الصلاة.
أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن جعفر الطبري، حدّثنا بشر بن مطير، حدّثنا سفيان، حدّثنا العلاء بن عبد الرَّحْمن عن أبيه أنه سمع أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من صلّى صلاة فلم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج ـ ثلاث مرات ـ غير تمام" .
وأخبرنا عبد الله قال: أخبرنا ابن عباس، حدّثنا عبد الرَّحْمن بن بشر، حدّثنا ابن عيينة عن الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا صلاة لمن لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب" .
أخبرنا عبد الله، أخبرنا عبدوس بن الحسين، حدّثنا أبو حاتم الرازي، حدّثنا أبو قبيصة، حدّثنا سفيان عن جعفر بن علي بيّاع الأنماط عن أبي هريرة قال: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي: لا صلاة إلاّ بقراءة فاتحة الكتاب" .
وأخبرنا عبد الله، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق، أخبرنا أبو المثنى، حدّثنا مسدِّد، حدّثنا عبدالوارث بن حنظلة السدوسي قال: قلت لعكرمة: إنّي ربّما قرأت في المغرب { { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلْفَلَقِ } [الفلق: 1] و { { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ } [الناس: 1] وأنّ الناس يعيبون عليَّ ذلك، فقال: سبحان الله إقرأ بهما فإنّهما من القرآن، ثمّ قال: حدّثنا ابن عبّاس "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج فصلّى ركعتين لم يقرأ فيهما إلاّ بفاتحة الكتاب لم يزد على ذلك غيره" .
وأخبرنا أبو القاسم الحبيبي، حدّثنا أبو العبّاس الأصمّ، أخبرنا الربيع بن سليمان، حدّثنا الشافعي، حدّثنا سفيان عن الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب" واحتجّ من أجاز الصلاة بغيرها بقوله: { { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } [المزمل: 20].
وأخبرنا أبو محمّد عبد الله بن حامد بقراءتي عليه أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه أخبرنا أبو المثنّى حدّثنا مسدّد، حدّثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله بن عمر قال: حدّثنا سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة
"أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل وصلّى ثم جاء فسلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ارجع فصلِّ، فإنك لم تصلِّ حتى فعل ذلك ثلاث مرات. قال الرجل: والذي بعثك بالحق نبياً ما أحسن غير هذا، فعلِّمني. قال: إذا قمت إلى الصلاة فكبّر ثم اقرأ ما تيسَّر معك من القرآن ثم اركع" .
وهذه اللفظة يحتمل أنه أراد أن كل ما وقع عليه اسم قرآن وجهل إنما يراد سورة بعينها، فلمّا احتمل الوجهين نظرنا فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم صلى بفاتحة الكتاب وأمر بها (وشدّد على) من تركها، فصار هذا الخبر مجملا، والأخبار التي رويناها مفسرة، والمجمل يدل على المفسر، وهذا كقوله: { { فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ } [البقرة: 196] ثم لم يجز أحد (ترك الهدي) بل ثبتها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفة أن لا يكون أعور ولا أعرج ولا معيوباً، فكذلك أراد بقوله عزّ وجلّ وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فسّر بالصفة التي بينها أن تكون سورة الحمد إذا أحسنها، وقدرها إذا لم يحسنها. فبالعلة التي أوجبوا قراءة آية تامة مع قوله: "ما تيسّر" له وجه ظاهره العلم، والله أعلم.
ذكر وجوب قراءتها على المأموم كوجوبها على الإمام واختلاف الفقهاء فيه:
قال مالك بن أنس: يجب عليه قراءتها إذا خَافَتَ الإمام، فأمّا إذا جهر فليس عليه [شيء]. وبه قال الشافعي في القديم وقال في الجديد: يلزمه القراءة أسرَّ الإمام أو جَهَر. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يلزمه القراءة خافت أو جهر.
واتّفق المسلمون على أن صلاته [صحيحة] إذا قرأ خلف الإمام.
والدليل على وجوب القراءة على المأموم كوجوبها على الإمام ما أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا مكي بن عبد الله، حدّثنا أبو الأزهر، حدّثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدّثنا أبي عن أبي إسحاق، حدّثنا مكحول، وأخبرنا عبد الله، أخبرنا أحمد بن عبد الرَّحْمن بن سهل، حدّثنا سهل بن عمار، حدّثنا يزيد بن هارون، أخبرنا محمد بن إسحاق عن مكحول عن محمود ابن الربيع عن عبادة ابن الصامت قال:
"صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح فثقلت عليه القراءة فلمّا انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته أقبل علينا بوجهه وقال: إني لأراكم تقرؤون خلفي؟. قلنا: أجل والله يا رسول الله هذا. قال: فلا تفعلوا إلاّ بأُمّ الكتاب فإنّه لا صلاة لمن لم يقرأ بها" .
وهو قول عمر وعثمان وعلي وابن عباس وجابر وابن مسعود وعمران بن حصين وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وعبادة بن الصامت وهشام بن عامر ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وعبد الله بن عمر وأبي الدرداء وعائشة وأبي هريرة وجماعة كبيرة من التابعين وأئمة المسلمين روي عنهم جميعاً أنهم رأوا القراءة خلف الإمام واجبة.
ووجه القول القديم ما روى سفيان عن عاصم بن أبي النجود، عن ذكوان، عن أبي هريرة وعائشة أنهما كانا يأمران بالقراءة وراء الإمام إذا لم يجهر. واحتج أبو حنيفة وأصحابه بما أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه، أخبرنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدّثنا الوليد ابن حمّاد اللؤلؤي: حدّثنا الحسن بن زياد اللؤلؤي: حدّثنا أبو حنيفة عن الحسن عن عبد الله بن شدّاد بن الماد عن جابر بن عبد الله قال:
"قال النبي صلى الله عليه وسلم من صلّى خلف امام فإنّ قراءة الإمام له قراءة" .
وأخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أبو بكر بن إسحاق، أخبرنا محمد بن أيوب، أخبرنا أحمد بن يونس، حدّثنا الحسن بن صالح، عن جابر الجعفي، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان له إمام فقراءته له قراءة" .
فأمّا حديث عبد الله بن شدّاد فهو مرسل، رواه شعبة وزائدة وابن عينية وأبو عوانة وإسرائيل وقيس وجرير وأبو الأحوص مرسلا، والمرسل لا تقوم به حجّة، والوليد بن حماد والحسن لا يدرى من هما. وأما خبر جابر الجعفي فهو ساقط، قال زائدة: جابر كذاب، وقال أبو حنيفة: ما رأيت أكذب من جابر. وقال ابن عينية: كان جابر لا يوقن بالرجعة.
وقال شعبة: قال لي جابر: دخلت إلى محمد بن علي فسقاني شربة وحفظت عشرين ألف حديث. ولا خلاف بين أهل النقل في سقوط الاحتجاج بحديثه.
وقد روي عن جابر بن عبد الله ما خالف هذه الأخبار، أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أبو بكر ابن إسحاق، حدّثنا عبد الله بن محمد، حدّثنا محمد بن يحيى، أخبرنا سعد بن عامر، عن شعبة، عن مسعر عن يزيد بن الفقير، عن جابر بن عبد الله، قال: كنا نقرأ في الظهر والعصر خلف الإمام، ومحال أن يروي جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قراءة الإمام قراءة المأموم ثم يقرأ خلف الإمام ويأمر به مخالفة للنبي صلى الله عليه وسلم.
واحتجوا أيضاً بما روي عن عاصم بن عبد العزيز عن أبي سهيل عن عوان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"يكفيك قراءة الإمام جَهَرَ أو لم يجهر" .
وهذا الحديث أيضاً لا يثبته أهل المعرفة بالحديث؛ لأنه غير متن الحديث، وإنما الخبر الصحيح فيه عن أبي هريرة ما أخبرنا أبو عمرو الفراتي، أخبرنا الهيثم بن كليب، حدّثنا العباس ابن محمد الدوري، حدّثنا بشر بن كلب، حدّثنا شعبة، عن العلاء بن عبد الرَّحْمن، عن أبيه، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج خداج خداج غير تمام. قال: فقلت له: إذا كان خلف الإمام؟ قال: فأخذ بذراعي وقال: يا فارسي ـ أو قال: يا بن الفارسي ـ اقرأ بها في نفسك" .
واحتجوا أيضاً بما روى أبو إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: كانوا يقرؤون خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "خلطتم عليّ القرآن" .
وهذا الخبر فيه نظر، ولو صحّ لكان المنع من القراءة كما رواه النضر بن شميل.
أخبرنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله،
"عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقوم يقرؤون القرآن ويجهرون به: خلطتم عليّ القرآن" ، فليس في نهيه عن القراءة خلف الإمام جهراً ما يمنع عن القراءة سرّاً. ونحن لا نجيز الجهر بالقراءة خلف الإمام؛ لما فيه من سوء الأدب والضرر الظاهر. وقد روى يحيى بن عبد، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي حازم، عن البياضي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" "إذا قام أحدكم يصلّي، فإنه يناجي ربّه، فلينظر بما يناجيه، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن" .
ودليل هذا التأويل حديث عبد الله بن زياد الأشعري قال: صليت إلى جنب عبد الله بن مسعود خلف الإمام فسمعته يقرأ في الظهر والعصر. وكذلك الجواب عن إحتجاجهم بخبر عمران بن الحصين قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر فلما انصرف قال: أيّكم قرأ (سبح اسم ربك الأعلى)، قال رجل: أنا ولم أرد به إلاّ الخير. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عرفت أن بعضكم خالجنيها" .
واحتجّوا أيضاً بحديث أبي هريرة: فإذا قرأ فأنصتوا، وليس الانصات بالسكوت فقط إنّما الإنصات أن تحسن استماع الشيء ثم يؤدى كما سمع، يدل عليه قوله تعالى في قصّة الجن: { { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوۤاْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُواْ يٰقَوْمَنَآ } [سورة الأحقاف: 29-30].
وقد يسمى الرجل منصتاً وهو قارىء مسبّح إذا لم يكن جاهراً به، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من أتى الجمعة فأنصت ولم يلغ حتى يصلي الإمام كان له كذا وكذا" .
فسمّاه منصتاً وإن كان مصليّاً ذاكراً، "وقيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم ما تقول أيضاً؟ قال: أقول اللّهمّ اغسلني من خطاياي" فدلّ أنّ الإنصات وهو ترك الجهر بالقراءة دون المخافتة بها، يدل عليه ما أخبرنا به أبو القاسم الحسين، حدّثنا أبو العباس الأصم، حدّثنا أبو الدرداء هاشم بن محمد، حدّثنا عبيد بن السكن، حدّثنا إسماعيل بن عباس، أخبرنا محمد بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من صلّى صلاةً مكتوبة أو سبحة فليقرأ بأُمّ القرآن.
قال: قلت: يا رسول الله، إني ربما أكون وراء الإمام.
قال صلى الله عليه وسلم اقرأ إذا سكت إنما جعل الإمام ليؤتمّ به"
.
قد رواه الثقات الأثبات عن أبي هريرة مثل الأعرج وهمام بن منبّه وقيس بن أبي حازم وأبي صالح وسعيد المقبري والقاسم بن محمد وأبي سلمة، ولم يذكروا: (وإذا قرأ القرآن فأنصتوا).
وأمّا احتجاجهم بقوله تعالى:
{ { وَإِذَا قُرِىءَ ٱلْقُرْآنُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ } [الأعراف: 204]، فسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.