التفاسير

< >
عرض

قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ
١
ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ
٢
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ
٣
وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ
٤
-الاخلاص

الكشف والبيان

{ قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } أخبرنا الشيخ أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق المزكى قال: أخبرنا الإمام أبو بدر محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: حدثنا أحمد بن منيع ومحمود بن خداش قالا: حدثنا أبو سعد الصغاني قال: حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أُبي بن كعب أن المشركين قالوا لرسول الله (عليه السلام): انسب لنا ربك، فأنزل الله سبحانه { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } الى آخر السورة.
وروى أبو ضبيان وأبو صالح عن ابن عباس
"أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال عامر: الى ما تدعونا يا محمد؟ قال: الى الله سبحانه فقالا: صفه لنا، أذهب هو أم فضة أم حديد أم من خشب؟ فنزلت هذه السورة، فأرسل الله سبحانه الصاعقة إلى أربد فأحرقته وطعن عامر في خنصره فمات،" وقد ذكرت قصتهما في سورة الرعد.
وقال الضحاك وقتادة ومقاتل:
"جاء ناس من أحبار اليهود الى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد صف لنا ربّك لعلنا نؤمن بك فإن الله أنزل نعته في التوراة فأخبرنا به من أي شيء هو من أي جنس أمن ذهب هو أو نحاس أم صفر أم حديد أم فضة؟ وهل يأكل ويشرب؟ وممّن ورث الدنيا؟ ومن يورثها؟ فأنزل الله سبحانه هذه السورة" وهي نسبة الله خاصة.
وأخبرني عقيل أن أبا فرج البغدادي أخبرهم عن أبي جعفر الطرفي قال: حدّثنا ابن حميد قال: حدّثنا سلمة قال: حدّثني ابن إسحاق عن محمد بن سعيد قال:
"أتى رهط من اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا محمد هذا الله خلق الخلق فمن خلقه؟ فغضب النبي حتى أمتقع لونه ثم ساورهم غضباً لربه، فجاءه جبرائيل فسكّنه وقال: أخفض عليك جناحك يا محمد، وجاءه من الله سبحانه بجواب ما سألوه { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } السورة، فلما تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له: صف لنا ربك كيف خلق وكيف عضده وذراعه؟ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم أشد من غضبه الأوّل وساورهم، فأتاه جبرائيل فقال: له مثل مقالته وأتاه بجواب ما سألوه { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [الزمر: 67]" .
وقال الضحاك عن ابن عباس: "إنَّ وفد نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة أساقفة من بني الحرث بن كعب فيهم السيد والعاقب، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم صف لنا ربك من أي شيء هو؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنَّ ربي ليس من شيء وهو بائن من الأشياء فأنزل الله سبحانه { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } أي واحد" .
ولا فرق بين الواحد والأحد عند أكثر أصحابنا يدل عليه قراءة عبد الله { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [.......].
وفرق قوم بينهما فقال بعضهم: الواحد للفصل والأحد للغاية، وقيل: واحد بصفاته أحد بذاته، وقيل: إنَّ الواحد يدلّ على أزليته وأوّليته، لأنَّ الواحد في الأعداد ركنها وأصلها وميدانها، والأحد يدل على بينونته من خلقه في جميع الصفات، ونفي أبواب الشرك عنه، فالأحد بني لنفي ما يذكر معه من العدد، والواحد أسم لمفتتح العدد، فأحد صلح في الكلام في موضع الجحود، والواحد في موضع الإثبات تقول: لم يأتني منهم أحد وجاءني منهم واحد، فالمعنى أنه لم يأتني أثنان، وقال ابن الأنباري: أجد في الأصل واحد كما قالوا للمرأة أناة والأصل ونأة من الوني وهو الفتور قال الشاعر:

رمته أناة من ربيعة عامرنؤوم الضحى في مأتم أي مأتم

وقال النابغة في الواحد:

كأن رحلي وقد زال النهار بنابذي الجليل على مستأنس وحد

سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القاسم البزاز يقول: سمعت ابن عطاء يقول في قوله سبحانه { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ }: هو المنفرد بإيجاد المفقودات والمتحّد بأظهار الخفيّات.
وقراءة العامة { أَحَدٌ } بالتنوين، وقرأ الحسن ونصر بن عاصم وابن إسحاق وأبان بن عثمان وهارون بن عيسى { أَحَدٌ * ٱللَّهُ } بلا تنوين طلباً للخفة وفراراً من التقاء الساكنين كقراءة من قرأ
{ { عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ } [التوبة: 30] بغير تنوين.
وأما قوله: { ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ } فاختلفوا فيه فقال ابن عباس ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير: الذي لا جوف له، وأما سعيد بن المسيب: الذي لا حشو له، الشعبي: الذي لا يأكل ولا يشرب، وإليه ذهب الفرضي، وقيل: يفتره ما بعده.
أخبرنا محمد بن الفضل قال: أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: حدثنا أحمد بن منبع ومحمود بن خراش قال: حدّثنا أبو سعد الصعالي قال: حدّثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية عن أبيّ بن كعب قال: الصمد الذي لم يلد ولم يولد، لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت وليس يرث إلا سيورث وأن الله لا يموت ولا يورث.
وقال أبو وائل شفيق بن سلمة: وهو السيّد الذي قد أنتهى سؤدده، وهي رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: هو السيد الذي قد كمل في جميع أنواع الشرف والسؤدد.
غيره: هو السيد المقصود في الحوائج، يقول العرب: صمّدت فلاناً أصمده وأصمُده صمْداً بسكون الميم إذا قصدته، والمصمود صمد كالقبض والنفض، ويقال: بيت مصمود ومصمّد إذا قصده الناس في حوائجهم قال طرفة:

وأن يلتقي الحي الجميع تلاقنيالى ذروة البيت الرفيع المصمد

وأنشد الأئمة في الصمد:

ألا بكر الناعي بخيري بني أسدبعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد

وقال قتادة: الصمد: الباقي بعد خلقه، عاصم ومعمر: هو الدائم، علي بن موسى الرضا: هو الذي أيست العقول عن الإطلاع على كيفيته، محمد بن علي الترمذي: هو الأزلي بلا عدد، والباقي بلا أمد، والقائم بلا عمد، الحسين بن الفضل: هو الأزلي بلا أبتداء، وقيل: هو الذي جلّ عن شبه المصورين وقيل: هو بمعنى نفي التجزؤ والتأليف عن ذاته، ميسرة: المصمت، ابن مسعود: الذي ليست له أحشاء، أبو إسحاق الكوفي عن عكرمة: الصمد الذي ليس فوقه أحد، وهو قول علي عليه السلام.
السدي: هو المقصود إليه في الرغائب المستغاث به عند المصائب، يمان: الذي لاينام، كعب الأحبار: الذي لا يكافئه من خلقه أحد. ابن كيسان: الذي لا يوصف بصفته أحد، مقاتل ابن حيان: الذي لا عيب فيه، ربيع: الذي لا تعتريه الآفات، سعيد بن جبير أيضاً: الكامل في جميع صفاته وأفعاله، الصادق: وهو الغالب الذي لا يغلب، أبو هريرة: المستغني عن كل أحد والمحتاج إليه كل أحد، مرّة الهمداني: الذي لا يبلى ولا يغنى، الحسين بن الفضل أيضاً: هو الذي يحكم ما يريد ويفعل ما يشاء لا معقّب لحكمه ولا راد لقضائه.
محمد بن علي: الصمد: الذي لا تدركه الأبصار ولا تحويه الأفكار ولا تبلغه الأقطار وكل شي عنده بمقدار.
ابن عطاء: الصمد: الذي لم يتبّين عليه أثر فيما أظهر، جعفر: الذي لم يعط لخلقه من معرفته الا الاسم والصفة، جنيد: الذي لم يجعل لأعدائه سبيلا الى معرفته، وقيل: هو الذي لا يدرك حقيقة نعوته وصفاته فلا يتسع له اللسان ولا يشير إليه البيان، ابن عطاء: هو المتعالي عن الكون والفساد، وقال الواسطي: الذي لا يسحر ولا يستغرق ولا تعترض عليه القواطع والغلل.
وقال جعفر أيضاً: الصمد خمس حروف: فالألف دليل على أحديّته، واللام دليل على الهيته وهما مدغمان لا يظهران على اللسان ويظهران في الكتابة، فدلّ على أحديته والهيّته خفية لا يدرك بالحواس، وأنّه لا يقاس بالناس فخفاءه في اللفظ دليل على أن العقول لا تدركه ولا تحيط به علماً، وأظهاره في الكتابة دليل على أنه يظهر على قلوب العارفين، ويبدو لأعين المحبين في دار السلام، والصاد دليل على صدقه، فوعده صدق وقوله صدق وفعله صدق ودعا عباده الى الصدق، والميم دليل على ملكه فهو الملك على الحقيقة، والدال علامة دوامه في أبديته وأزليته.
{ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } اختلف القراء فيه، فقرأ حمزة ويعقوب ساكنة الفاء مهموزة ومثله روى العباس عن أبي عمرو وإسماعيل عن نافع، وقرأ شيبة مشبعة غير مهموزة ومثله روى حفص عن عاصم، وقرأ الآخرون مثقلاً مهموزاً وكلّها لغات صحيحة فصيحة ومعناه المثل.
{ أَحَدٌ } أي هو واحد، وقيل: على التقديم والتأخير مجازه: "وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ أَحَدٌ كُفُواً".
وقال عبد خير: سأل رجل علي بن أبي طالب عليه السلام عن تفسير هذه السورة قال: قل هو الله أحد بلا تأويل عدد، الله الصمد لا يتبعض بدد، لم يلد فيكون هالكاً، ولم يولد فيكون إلهاً مُشارَكاً، ولم يكن له من خلقه كفؤاً أحد.
وأخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي بقراءتي قال: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: وجدنا أنواع الشرك ثمانية: النقص والتقلّب والكثرة والعدد وكونه علّة أو معلولاً، والأشكال والأضداد، فنفى الله تعالى عن صفته نوع الكثرة والعدد بقوله: { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } ونفى التنقّص والتقلّب بقوله: { ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ } ونفى العلل والمعلول بقوله: { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } ونفى الأشكال والأضداد بقول: { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } فحصلت الوحدانية البحت لذلك سمّيت سورة الإخلاص.