التفاسير

< >
عرض

مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَىٰ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّعُقْبَى ٱلْكَافِرِينَ ٱلنَّارُ
٣٥
وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ ٱلأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ وَلاۤ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ
٣٦
وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ
٣٧
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ
٣٨
يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَابِ
٣٩
وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا ٱلْحِسَابُ
٤٠
-الرعد

الكشف والبيان

{ مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ } في دخولها اختلفوا في الرافع للمثل.
فقال الفراء: هو ابتداء وخبر على قوله { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } وقيل معنى المثل الصفة كقوله
{ وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ } [النحل: 60] أي الصفة العليا وقوله { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ } [الفتح: 29] ومجاز الآية صفة الجنة التي وعد المتقون أنّ الأنهار تجري من تحتها وكذا وكذا.
وقيل مثل وجه مجازها الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار، والعرب تفعل هذا كثيراً بالمثل والمثل كقوله
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11] أي ليس هو كشيء.
وقيل معناه: { لِلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ ٱلْحُسْنَىٰ } [الرعد: 18]. قيل الجنة [بدل] منها.
قال مقاتل: معناه شبه الجنة التي وعد المتقون في الخير والنعمة والخلود والبقاء كشبه النار [في العذاب و] الشدّة والكرب.
{ أُكُلُهَا دَآئِمٌ } لا ينقطع ولا يفنى { وِظِلُّهَا } ظليل لا يزال وهذا رد على الجهمية، حيث قالوا: إن نعيم الجنة يفنى { تِلْكَ عُقْبَىٰ } يعني ما فيه { ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } الجنة { وَّعُقْبَى ٱلْكَافِرِينَ ٱلنَّارُ * وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ } يعني القرآن وهم أصحاب محمد { يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } من القرآن { وَمِنَ ٱلأَحْزَابِ } يعني الكفار الذين كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم اليهود والنصارى { مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } وذلك أنهم آمنوا بسورة يوسف وقالوا إنها واطأت كتابنا وهذا قول مجاهد وقتادة.
وقال باقي العلماء: كان ذكر الرحمن في القرآن قليلا في بدء ما أنزل فلما أسلم عبدالله. ابن سلام وأصحابه: ساءهم قلّة ذكر الرحمن في القرآن؛ لأن ذكر الرحمن في التوراة كثير فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك قوله الله تعالى
{ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ } [الإسراء: 110] الآية.
فقالت قريش حين نزلت هذه الآية: ما بال محمد كان يدعو إلى إله واحد فهو اليوم يدعو إلى إلهين: الله والرحمن، ما نعرف الرحمن إلاّ رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب فأنزل الله
{ وَهُمْ بِذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ هُمْ كَافِرُونَ } [الأنبياء: 36]وهم يكفرون بالرحمن وفرح مؤمنو أهل الكتاب بذكر الرحمن فأنزل الله { وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } الله من ذكر الرحمن { وَمِنَ ٱلأَحْزَابِ } يعني مشركي قريش من يذكر بعضه. قال الله { قُلْ } يا محمد { إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ وَلاۤ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ } مرجعي { وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً } وكما أنزلنا إليك الكتاب يا محمد وأنكره الأحزاب، كذلك أيضاً أنزلنا الحكم والدين حكماً عربياً، وإنما وصفه بذلك لأنه أنزل على محمد وهو عربي، فنسب الدين إليه إذ كان منزلا عليه فكذب الاحزاب بهذا الحكم أيضاً، وقال قوم معنى الآية: وكما أنزلنا الكتب على الرسل بلغناهم كذلك أنزلنا عليك القرآن حكماً عربياً ثم توعده على إتباع هوى الأحزاب فقال { وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم } قيل بما شاء الله، وقيل في أهل القبلة لأنّه { مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ } فجعلناهم بشراً مثلك { وَجَعَلْنَا لَهُمْ } نكحوهن وأولاد ينسلوهم ولم يجعلهم ملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحوهن، فنجعل الرسول إلى قومك ملائكة ولكن أرسلنا إلى قومك بشراً مثلهم كما أرسلنا إلى من قبلهم من الأُمم بشراً مثلهم { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } وهذا جواب عبد الله بن أبي أُمية ثم قال: { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } لكل أمر أمضاه الله كان قد كتبه لجميع عبيده، الضحاك: معناه لكل كتاب نزل من السماء أجل ووقت ينزل فيه وهذا من المقلوب { يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ }.
قرأ حميد وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: ويثبت بالتخفيف.
وقرأ الآخرون: بالتثقيل واختاره أبو عبيد لكثرة من قرأها ولقوله تعالى
{ يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [إبراهيم: 27].
واختلف المفسرون في معنى الآية، فروى نافع عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"يمحو الله ما يشاء إلاّ الشقاوة والسعادة والموت" .
وعن ابن عباس قال: يمحو الله ما يشاء إلا أشياء: الخَلْق والخُلْق والرزق والأجل والسعادة والشقاوة.
عكرمة عنه هما كتابان سوى أم الكتاب يمحو الله فهما ما يشاء ويثبت { وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَابِ } الذي لا يغير منه شيء.
أبو صالح والضحاك: يمحو الله ما يشاء من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب ويثبت ما فيه ثواب وعقاب.
وروى عفان عن همام عن الكلبي: يمحو الله ما يشاء ويثبت. قال: يمحو من الرزق ويزيد فيه ويمحو من الأجل ويزيد فيه. قلت من حدثك؟
قال أبو صالح عن جابر بن عبد الله بن رئاب الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم فقدم الكلبي بعد فسئل عن هذه الآية فقال: حتى إذا كان يوم الخميس يطرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب. مثل قولك أكلت، شربت، دخلت، خرجت ونحوها من الكلام وهو صادق، ويثبت ما كان فيه الثواب وعليه العقاب.
وقال بعضهم: يمحو الله ما يشاء ويثبت كل ما يشاء [من] غير استثناء كما حكى الكلبي عن راذان عن جابر عن النبي (صلى الله عليه وسلم).
روى أبو عثمان النهدي: أنّ عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) كان يطوف بالبيت السبت وهو يبكي ويقول: اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فإن كنت كتبت عليَّ الذنب والشقوة فامحني وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أُم الكتاب.
ابن مسعود: إنه كان يقول: اللهم إن كنت كتبتني في السعداء فأثبتني فيهم وإن كنت كتبتني في الأشقياء فامحني من الأشقياء وأثبتني في السعداء فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أُم الكتاب.
وروى حماد بن أبي حمزة عن إبراهيم: أن كعباً قال لعمر (رضي الله عنه): يا أمير المؤمنين لولا اية في كتاب الله لأُنبئنك بما هو كائن إلى يوم القيامة.
قال: وما هو؟ قال: قول الله تعالى { يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَابِ }.
وروى عطية عن ابن عباس: في هذه الآية قال: هو الرجل يعمل للزمان بطاعة الله ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة فهو الذي يمحو، والذي يثبت الرجل الذي عمل بطاعة الله وقد كان يقول: خير أُمتي يموت وهو في طاعة الله، فهو الذي يثبت.
قال علي بن أبي طالب (رضي الله عنه): يمحو الله ما يشاء من القرون ويثبت ما يشاء منها كقوله
{ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ } [يس: 31] وقوله { ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } [المؤمنون: 31].
سعيد بن جبير وقتادة: يمحو الله ما يشاء من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله ويثبت ما يشاء وما ينسخه.
الحسن: لكل أجل كتاب يعني آجال بني آدم في كتاب يمحو الله ما يشاء من جاء أجله فيذهب به ويثبت من لم يجىء أجله إلى أجله.
مجاهد وابن قيس: حين ما أنزل { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } [الرعد: 38] ما نراك يا محمد تملك من شيء ولقد فرع من أمره. فأنزلت هذه الآية تخويفاً ووعداً لهم أي إن يشاء أحدثها من أمر. قاله بأشياء ويحدث في كل رمضان في ليلة القدر فيمحوا ويثبت ما يشاء من أرزاق الناس ومصائبهم وما يعطيهم وينسئهم له.
محمد بن كعب القرظي: إذا ولد الإنسان. أثبت أجله ورزقه وإذا مات محى أجله ورزقه.
وروى سعيد بن جبير: يمحو الله ما يشاء من ذنوب عباده فيغفرها ويثبت ما يشاء بتركها فلا يغفرها.
عكرمة: يمحو الله ما يشاء يعني بالتوبة جميع الذنوب ويثبت بدل الذنوب حسنات فإنه
{ إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [الفرقان: 70].
وروى عن الحسن أيضاً: يمحو الله ما يشاء يعني الآباء ويثبت يعني الأبناء.
السدي: يمحو الله ما يشاء يعني القمر ويثبت يعني الشمس.
بيانه قوله:
{ { فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً } [الإسراء: 12].
ربيع: هذا في الأرواح في حال النوم يقبضها عند النوم فمن أراد موته محا وأمسكه ومن أراد بقاءه أثبته ورده إلى صاحبه.
بيانه قوله
{ { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا وَٱلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِـهَا فَيُمْسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا ٱلْمَوْتَ وَيُرْسِلُ ٱلأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } [الزمر: 42].
وقيل: يمحو الله ما يشاء الدنيا ويثبت الآخرة.
وروى محمد بن كعب القرظي عن فضالة بن عبيد عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن الله يفتح الذكر في ثلاث ساعات يبقين من الليل، في الساعة الأُولى منهن ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه آخر غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء" .
ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: إن لله لوحاً محفوظاً مسيرة خمسمائة عام من درة جنانها رمان من ياقوت ولله في كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة يمحو منها ما يشاء ويثبت وعنده أُم الكتاب.
قال قيس بن عباد: العاشر من رجب هو يوم يمحو الله فيه ما يشاء ويثبت وعنده أُم الكتاب يعني اللوح المحفوظ الذي لا يغير ولا يبدل.
قال قتادة والضحاك: حلية الكتاب وأصله فيه ما يمحو ويثبت.
فسأل ابن عباس كذا عن أُم الكتاب.
قال: يعلم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون فقال لعلمه: كن كتابا فكان كتابا { وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ } من العذاب { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } قبل أن نريك ذلك { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ } الذي عليك [أن تبلغهم] { وَعَلَيْنَا ٱلْحِسَابُ } والجزاء.