التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ ٱلْسُّوۤءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
٩٤
وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
٩٥
مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُوۤاْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٩٦
مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٩٧
فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ
٩٨
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
٩٩
إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ
١٠٠
-النحل

الكشف والبيان

{ وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً } خديعة وفساداً { بَيْنَكُمْ } يغرون بها الناس فتسكنون إلى إيمانكم ويأمنون ثمّ ينقضونها ويختلفون فيها { فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا } فتهلكوا بعد ما كنتم آمنين، والعرب تقول لكل مبتل بعد عافية أو ساقط في ورطة بعد سلامة: زلّت قدميه.
كقول الشاعر:

سيمنع منك السبق إن كنت سابقاًوتلطع إن زلت بك القدمان

{ وَتَذُوقُواْ ٱلْسُّوۤءَ } العذاب { بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً } يعني ولا تنقظوا عهودكم تطلبون بنقضها عوضاً قليلاً من الدنيا، ولكن أوفوا بها فإنما عند الله من الثواب لكم على الوفاء بذلك { خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } فصل ما بين العوضين ثمّ بين ذلك { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ } بالنون عاصم. الباقون بالياء.
{ ٱلَّذِينَ صَبَرُوۤا } على الوفاء في السرّاء والضراء { أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } دون أسوأها ويغفر سيئاتهم بفضله { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } اختلفوا فيها:
فقال سعيد بن جبير وعطاء والضحاك: هي الرزق الحلال، وهو رواية ابن أبي مالك وأبي الربيع عن ابن عبّاس.
وقال الحسن وعلي وزيد ووهب بن منبّه: هي القناعة والرضا بما قسم الله، وهذه رواية عكرمة عن ابن عبّاس.
وقال مقاتل بن حيان: يعني أحسن في الطاعة، وهي رواية عبيد بن سليم عن الضحاك، فقال: من يعمل صالحاً وهو مؤمن في فاقة أو ميسرة فحياة طيبة. ومن أعرض عن ذكر الله فلم يؤمن ولم يعمل عملاً صالحاً فمعيشة ضنك لا خير فيها.
أبو بكر الوراق: هي حلاوة الطاعة.
الوالبي عن ابن عبّاس: هي السعادة، مجاهد وقتادة وابن زيد: هي الجنة، ومثله روي عن الحسن وقال: لا تطيب الحياة لأحد إلاّ في الجنة.
{ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.
قال أبو صالح: جلس ناس من أهل التوراة وأهل الإنجيل وأهل الأوثان، فقال هؤلاء: نحن أفضل، وقال هؤلاء: نحن أفضل، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية { فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ } يعني فإذا كنت قارئاً للقرآن { فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ }.
قال محمّد بن جرير، وقال الآخرون: مجازه: فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ، كقوله:
{ { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ فٱغْسِلُواْ } [المائدة: 6] الآية، أي الطهارة مقدمة على الصلاة، وقوله: و { إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [الطلاق: 1] معناها وإذا أردتم تطليق النساء لأنه محال أن يأمرهم بالتطليق المعين بعد ما مضى التطليق. وأما حكم الآية: فاعلم أن الاستعاذة عند قراءة القرآن مستحبة في الصلاة وغير الصلاة، هذا قول جماعة الفقهاء إلاّ مالكاً، فإنه لا يتعوذ إلاّ في قيام رمضان، واحتج بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة بالحمد لله رب العالمين، وإنما تأويل هذا الحديث أنه كان يفتتح القراءة في الصلاة بالحمد لله رب العالمين، يدل عليه أن الصلاة تفتتح بالتكبير بلا خلاف على أن الخبر متروك الظاهر.
ويدل على صحة ما قلنا حديث
"جبير بن مطعم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي فقال: الله أكبر كبيراً والحمد لله وسبحان الله بكرة وأصيلاً، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من نفخة ونفثة وهمزة" .
وقال ابن مسعود: نفخة الكبر ونفثة الشعر وهمزة المرض يعني الجنون، فإذا تقرر هذا ثبت أن الخبر المتقدم متروك بالظاهر مأخوذ المعنى.
واختلف الفقهاء في وقت الاستعاذة:
فقال أكثرهم: قبل القراءة، وهو قول الجمهور، وهو الصحيح المشهور.
وقال أبو هريرة: يتعوذ بعد القراءة وإليه ذهب داود بن علي.
وقال مالك في الصلاة التي يتعوذ فيها وهي قيام رمضان: يتعوذ بعد القراءة واحتج بظاهر الآية، وقد بينّا وجهها، والدليل على أنها قبل القراءة، ماروى أبو المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" ثمّ يقرأ، وأما الكلام في محل الاستعاذة في الصلاة، فقد قال الشافعي: يقولها في أول الركعة، وقيل: إن قال حيث يفتتح كل ركعة قبل القراءة فحسن ما يقرأ به في شيء من الصلاة كما أمره به في أول ركعة. هذا قول عامة الفقهاء.
وقال ابن سيرين: يتعوذ في كل ركعة قبل القراءة. والصحيح المذهب الأوّل، لأن المروي في الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يتعوّذ إلاّ في الأولى، وأما صفتها وفي الصلاة فهي أن ينظر فإن كانت صلاة يسرّ فيها بالقراءة أسرّ فيها بالاستعاذة، وإن كانت يجهر فيها بالقراءة:
فقال الشافعي في (الأم): روي أن أبا هريرة أمّ الناس رافعاً صوته: ربنا إنا نعوذ بك من الشيطان الرجيم، وكان ابن عمر يعوذ في نفسه.
قال الشافعي: فإن شاء جهر بها وإن شاء أسرّ بها.
قال الثعلبي: والاختيار الاخفاء ليفرّق بين ما هو قرآن وما هو ليس بقرآن.
فأما لفظة الاستعاذة فالأولى والمستحب أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لنص القرآن والخبر المتصل المتسلسل، وهو أني قرآت على الشيخ أبي الفضل محمّد بن أبي جعفر الخزاعي، فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم في المواضع كلّها فأني قرأت على أبي الحسين عبد الرحمن بن محمّد بالبصرة فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على عبد الله أبي حامد الزنجاني فقلت: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على أبي عثمان إسماعيل بن إبراهيم الأهوازي فقلت: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على محمّد بن عبد الله بن بسطام فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على روح بن عبد المؤمن فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على يعقوب الحضرمي فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على سلام بن المنذر، فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على عاصم فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على زر بن حبيش فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على عبد الله بن مسعود فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أعوذ بالله السميع العليم، فقال لي:
"يا ابن أم عبد قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبرائيل عن القلم عن اللوح المحفوظ" .
قال ابن عجلان: وهكذا علمني أخي أحمد، وقال: هكذا علمني أخي، وقال: هكذا علمني وكيع بن الجراح، وقال: هكذا علمني سفيان الثوري.
{ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ } حجة وولاية { عَلَىٰ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ }.
قال سفيان: ليس له سلطان أن يحملهم على ذنب لا يغفر.
{ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ } يطيعونه { وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ } أي بالله { مُشْرِكُونَ }.
وقال بعضهم: الكناية راجعة إلى الشيطان، ومجاز الكلام: الذين يسمعون قوله مشركون بالله، وهذا كما يقال: صار فلان بك عالماً، أي من أجلك وبسببك عالماً.