التفاسير

< >
عرض

وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً
٧٣
وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً
٧٤
إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ ٱلْحَيَاةِ وَضِعْفَ ٱلْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً
٧٥
وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً
٧٦
سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً
٧٧
-الإسراء

الكشف والبيان

{ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ } الآية اختلفوا في سبب نزولها.
فقال سعيد بن جبير: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر الأسود فمنعته قريش وقالوا: لاندعك حتّى تلم بآلهتنا فحدث نفسه وقال: ما عليَّ أن ألمَّ بها والله يعلم إني لها كاره بعد أن يدعونني أستلم الحجر فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية.
قتادة: ذكر لنا أن قريشاً خلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة إلى الصباح يكلمونه ويخيرونه ويسودونه ويقارنونه وكان في قولهم أن قالوا: إنك تأتي بشيء لايأتي به أحد من الناس وأنت سيدنا فإين سيدنا فمازالوا يكلمونه حتّى كاد يقاربهم في بعض مايريدون ثمّ عصمه الله تعالى من ذلك وأنزل هذه الآية.
مجاهد: مدح آلهتهم وذكرها ففرحوا. ابن [جموح]: أتوه وقالوا له: أئت آلهتنا فأمسها فذلك قوله { شَيْئاً قَلِيلاً }.
ابن عبّاس: قدم وفد ثقيف على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال.
قال: ماهن؟
فقالوا: لا ننحني في الصلاة ولا نكسر أصناماً بأيدينا [وتمتعنا باللات] سنة.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
"لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود وأما أن لا تكسروا أصنامكم بأيديكم فذلك لكم وأما الطاعة للات فإني غير ممتعكم بها" .
فهنا قالوا لرسول الله: فإنا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا مالم تعطه غيرنا فإن كرهت ذلك وخشيت أن تقول العرب أعطيتهم مالم تعطنا فقل الله أمرني بذلك، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم ليؤمنوا، فعرف عمر (رضي الله عنه) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لما سألوه فقال: ما لكم آذيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرق الله أكبادكم إن رسول الله لا يدع الأصنام في أرض العرب إما أن تسلموا وإما أن ترجعوا فلا حاجة لنا فيكم.
فأنزل الله تعالى هذه الآية ووعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم ذلك.
عطية عنه قالت ثقيف للنبي صلى الله عليه وسلم أجّلنا سنة حتّى نقبض ما تُهدي لآلهتنا فإذا قبضنا التي تُهدى لآلهتنا كسرناها وأسلمنا، فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤجلهم فأنزل الله تعالى { وَإِن كَادُواْ } وقد هموا { لَيَفْتِنُونَكَ } ليستزلونك ويصرفونك { عَنِ ٱلَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ } لتختلف { عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً } لو فعلت مادعوك إليه { لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } أي قالوك وصافوك { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ } على الحق بعوننا { لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ } تميل { إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً } ولو فعلت ذلك { إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ ٱلْحَيَاةِ وَضِعْفَ ٱلْمَمَاتِ } المحتضر أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات يعني ضعفّنا لك العذاب في الدنيا والآخرة { ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً } ناصراً يمنعك من عذابنا.
قال قتادة: فلما نزلت هذه الآيات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"اللهم لاتُكلّني إلى نفسي طرفة عين" .
{ وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ } ليسخفونك { مِنَ ٱلأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا } الآية.
قال الكلبي:
"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة حسدت اليهود مقامه بالمدينة وكرهوا قربه منهم فأتوا فقالوا: يا محمّد أَنبيٌ أنت؟ قال: نعم، قالوا: والله لقد علمت ما هذه بارض الأنبياء وإن أرض الأنبياء الشام، وكأنى بها إبراهيم و [الأنبياء]: فان كنت نبياً مثلهم فأت الشام وقد علمنا إنما يمنعك الخروج إليها مخافتك الروم وإن الله سيمنعك بها من الروم إن كنت رسوله وهي الأرض المقدسة وإن الأنبياء لايكونوا بهذا البلد.
فعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أميال من المدينة وأربعة أميال، وفي بعض الروايات إلى ذي الحليفة، حتّى ترتاد ويجتمع عليه أصحابه [وينظر] إليه الناس"
. فأنزل الله عزّ وجلّ { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلأَرْضِ } التي كنت بها وهي أرض المدينة.
وروى شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن الحكم: إن اليهود أتوا نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم إن كنت صادقاً أنك نبي فالحق بالشام فإنها أرض المحشر والنشر وأرض الأنبياء فصدّق رسول الله ما قالوا وقد كان في غزوة تبوك لايريد بذلك إلاّ الشام فلما بلغ تبوك أنزل الله عليه آية من سورة بني إسرائيل بعدها ختمت السورة { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلأَرْضِ } الآية وأمره بالرجوع إلى المدينة وقال: فيها خيلك وملكك وفيها مبعثك.
قال مجاهد وقتادة: همَّ أهل مكة عمداً بإخراج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة ولو فعلوا ذلك لما توطنوا ولكن الله كفهم عن إخراجه حتّى أمره ولقلما لبثوا مع ذلك بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة حتّى أهلكهم الله يوم بدر.
وهذا التأويل أليق بالآية لأن ماقبلها خبر من أهل مكة ولم يجد لليهود ذكر ولأن هذه السورة مكية.
وقيل: هم الكفار كلهم كادوا أن يستخفوه من أرض العرب بإجتماعهم وتظاهرهم عليه فمنع الله رسوله صلى الله عليه وسلم ولم ينالوا منه ما أملوا من الظفر ولو أخرجوه من أرض العرب لم يميلوا أن يقيموا فيها على كفرهم بل أهلكوا بالعذاب فذلك قوله { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا } { وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ } أي بعدك وهي قراءة أبي عمرو وأهل الحجاز وإختاره أبو عبيد.
وقرأ الباقون: خلافك وإختاره أبو حاتم إعتباراً بقوله
{ { فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ ٱللَّهِ } [التوبة: 81] ومعناه أيضاً بعدك.
قال الشاعر:

عفت الديار خلافها فكأنمابسط الشواطب منهن حصيرا

أيّ بعدها.
{ إِلاَّ قَلِيلاً } حتّى تهلكوا { سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا } أيّ كسنّتنا فيمن أرسلنا قبلك من رسلنا إذا يكذبهم الأُمم أهلكناهم بالعذاب ولايعذبهم مادام فيهم بين أظهرهم فإذا خرج نبيهم من بين أظهرهم عذبناهم { وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً } تبديلاً.