التفاسير

< >
عرض

وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٤٨
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
١٤٩
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
١٥٠
كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ
١٥١
فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ
١٥٢
-البقرة

الكشف والبيان

{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ } أي ولكلّ أهل ملّة قبلة.
{ هُوَ مُوَلِّيهَا } مستقبلها ومقبل إليها يُقال: ولّيته، وولّيت إليه إذا أقبلت إليه وولّيت عنه إذا أدبرت عنه.
وأصل التولية: الإنصراف، وقرأ ابن عبّاس وابن عامر وأبو رجاء وسليمان بن عبدالملك: هو مولاها: أي مصروف إليها.
وفي حرف أُبي: ولكّ قبلة هو مولّيها، وفي حرف عبدالله: ولكلّ جعلنا قبلة هو موليها.
{ فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ } وبادروا فعل الخيرات، ومجازه فاستبقوا إلى الخيرات: أي يسبق بعضكم بعضاً؛ فحذف حرف الخبر. كقول الشاعر:

وهو الداعي (......) عليكم بالحرب ومن يمل سواكم فإني منه غير مائلِ

اراد من يمل إلى سواكم.
{ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ } يريد أهل الكتاب.
{ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً } يوم القيامة؛ فيجزيكم بأعمالكم.
{ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ } حيث حرف بدل على الموضع، وفيه ثلاث لغات: بالياء وحرف الثاء وهي لغة قريش، وقراءة العامّة، واختلفوا في وضع رفعها فقيل: هو مبني على الضم مثل: منذ وقط، وقيل: رفع على الغاية كقوله
{ { لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } [الروم: 4].
وحيث: بالياء ونصب الثاء وهي قراءة عبيد بن عمير.
قال الكسائي: إنّما نُصب بسبب الياء لأنّها ساكنة وإذا اجتمع ساكنان في حرف حركوا الثاني إلى الفتح؛ لأنّه أخف الحركات مثل: ليت وكيف.
وحوثُ: بالواو والضم وهي لغة ابن عمر.
يروى إنّهُ سئل أين يضع المصلّى يده في الصلاة، فقال: ارم بهما حوثُ وقعتا.
{ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } إلى { وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ } أيّها المؤمنون. { فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } هي لام كي دخلت على أن فكتبت بالكسرة ما قبلها، وترك بعضهم همزها تخفيفاً، والحجة فعلة من الحج وهو الفصل، ومنه المحجة وهي الطريق الواضح المسلوك؛ لأنّه مقصود، ويُقال : للمخاصمة محاجة لقصد كلّ واحد من الخصمين إلى إقامة بينته، وإبطال ما في يد صاحبه.
واختلفوا في تأويل هذه الآية ووجه قوله { إِلاَّ } فقال بعض أهل التأويل: ومعنى الآية حوّلت القبلة إلى الكعبة لئلاّ يكون للنّاس عليكم حجّة إذا صلّيتم إليها فيحتجّون عليكم ويقولون: لم تركتم التوجه إلى الكعبة وتوجهتم إلى غيرها لولا إنّه ليست لكم قبلة؟
{ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } وهم قريش واليهود وأمّا قريش فتقول إنّما رجع إلى الكعبة لأنّه علم أنّها قبلة آبائه وهي الحقّ وكذا يرجع إلى ديننا ويعلم أنّه الحقّ، وأمّا اليهود فإنّهم يقولون لم ينصرف عن بيت المقدس مع علمه بأنّه حق إلاّ إنّه إنّما يفعل برأيه فيزعم إنّه أَمر به، وهذا القول اختيار المفضّل بن سلمة الضبي وهو قول صحيح مرضي.
وقال قوم: معنى الآية { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ } يعني لأهل الكتاب عليكم حجّة وكانت حجّتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في صلاتهم نحو بيت المقدّس إنّهم كانوا يقولون : ما درى محمّد وأصحابه أين قبلتهم حتّى هديناهم نحن، وقولهم: يخالفنا محمّد في ديننا ويتّبع قبلتنا فهذه الحُجّة التي كانوا يحتجوّن بها على المؤمنين على وجه الخصومة والتموية بها على الجّهال من المشركين ثمّ قال { إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } وهم مشركوا مكّة وحجّتهم إنّهم قالوا: لمّا صرفت القبلة إلى الكعبة أنّ محمّداً قد تحيّر في دينه فتوجّه إلى قبلتنا وعلم إنّا أهدى سبيلاً منه وانّه لا يستغني عنّا ويوشك أن يرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا، وهذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والربيع والسّدي واختيار محمد بن جرير.
وعلى هذين القولين إلاّ استثناء صحيح على وجه نحو قولك: ما سافر أحد من النّاس إلاّ أخوك فهو إثبات للأخ من السفر، وما هو منفي عن كلّ أحد من النّاس، وكذلك قوله تعالى { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } من قريش نفي عن أن يكون لأحد حجة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بسبب تحولهم إلى الكعبة { إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } من قريش فإن لهم قبلهم حجة لما ذكرنا.
ومعنى الحجة في هذين القولين: الخصومة والجدل، والدعوى بالباطل كقوله
{ { لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } [الشورى: 15] : أي لا خصومة، وقوله { { أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ } [البقرة: 139] وليحاجوكم وتحاجون وحاججتم كلّها بمعنى المجادلة والمخاصمة لا بمعنى الدليل والبرهان، وموضع الّذين خفض كأنه قال: إلاّ للذين ظلموا. فلما سقطت اللام حلّت (الّذين) محلها قاله الكسائي.
قال الفراء: موضعه نصب بالاستثناء، وإنّما (......) منهم ردّ إلى لفظ الناس؛ لأنّه عام، وإن كان كلّ واحد منهم غير الآخر والله أعلم، وقال بعضهم: هو استثناء منقطع من الكلام الأول ومعناه إلاّ يكون للنّاس كلّهم عليكم حجة اللّهمّ إلاّ الّذين ظلموا فإنّهم يحاجونكم في الباطل ويجادلونكم بالظلم، وهذا كما يقول للرجل: النّاس كلّهم لك سامرون إلاّ الظالم لك: يعني لا (......) ذلك بتركه حمدك لعداوته لك، وكقولك للرجل: مالك عندي حق إلاّ أن تظلم، ومالك حجة إلاّ الباطل، والباطل لا يكون حجّة، وهذا استثناء من غير الحسن. كقول القائل: ليس في الدّار أحد إلاّ الوحش. كقول النابغة:

وما بالرّبع من أحد إلاّ وأرى لأياماً أمنّها وننوي كالحوض بالمظلومة الجلد

وهذا قول الفراء والمؤرخ.
وقال أبو روق : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ } يعني اليهود عليكم حجة؛ وذلك إنّهم كانوا قد عرفوا إنّ الكعبة قبلة إبراهيم وقد كانوا وجدوا في التوراة أنّ محمّداً سيحوّل إليها. فحوّلهُ الله إليها لئلا يكون لهم حجة فيحتجون. بأن هذا النبيّ الّذي نجده في كتابنا سيحوّل إليها ولم تحوّل أنت فلمّا حوّل النبيّ صلى الله عليه وسلم ذهبت حجّتهم ثمّ قال: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } منهم يعني إلاّ أن يظلموكم فيكتموا ما عرفوا.
وقال الأخفش: معناه لكفى الّذي ظلموا مالهم به من علم إلاّ إتّباع الظن يعني: لكن يتبعون الظّن، قوله:
{ { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ * إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ ٱلأَعْلَىٰ } [الليل: 19-20] يعني لكن تبتغى وجه ربّك فيكون منفرداً من الكلام الأوّل.
وروى أبو عبيد عن أبي عبيدة إنّه قال: ليس موضع إلاّ هاهنا موضع الاستثناء لأنّه لا يكون للظالم حجّة إنّما هو في موضع واو العطف كأنّه قال: ولا الّذين ظلموا يعني والّذين ظلموا لا يكون لهم أيضاً حجّة.
وأنشد المفضل:

ما بالمدينة دار غير واحدة دار الخليفة إلاّ دار مروانا

وأنشد أيضاً:

وكلّ أخ مفارقة أخوه لعمر أبيك إلاّ الفرقدان

يعني والفرقدان أيضاً متفرقان
وأنشد الأخفش:

وارى لها داراً بأغدرة السيـ ـدان لم يدرس لها رسم
إلاّ رماداً هامداً دفعت عنه الرياح خوالد سحم

أي: وأرى داراً ورماداً، يؤيّد هذا القول ما روى أبو بكر بن مجاهد عن بعضهم إنّه قرأ بعضهم: (إلى الّذين ظلموا) مخفّفا يعني مع الّذين ظلموا.
ومعنى الآية: لئلاً يكون للنّاس، يعني اليهود عليكم حجّة في أمر الكعبة حيث لا يستقبلونها وهي قبلة إبراهيم فيقولون لكم تزعمون إنّكم على دين إبراهيم ولم تستقبلوا قبلته ولا للذين ظلموا وهم مشركوا مكّة لأنّهم قالوا: إنّ الكعبة قبلة جدّنا إبراهيم فما بال محمّد تحوّل عنها فلا يصلّي إليها ويصلّي إلى قبلة اليهود.
وقال قطرب: معناها إلاّ على الّذين ظلموا فيكون ردّه على الكاف والميم أي إلاّ على الّذين ظلموا فإنّ عليهم الحجّة فحذف حرف الجر وهذا إختيار أبي منصور الأزهري.
قال الثعلبي: سمعت أبا القاسم الحبيبي يحكيها عنه وحكى محمّد بن جرير عن بعضهم إنّه قال: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } هاهنا ناس من العرب كانوا يهوداً ونصارى وكانوا يحتجّون على النبيّ صلى الله عليه وسلم فأمّا سائر العرب فلم يكن لهم حجّة وكانت حجّة من إحتجّ أيضاً داحضة باطلة لأنّك تقول لمن تريد أن تكسر حُجّته عليه : أنّ لك عليّ حجّة ولكن منكسرة إنك لتحتجّ بلا حجّة وحجّتك ضعيفة، فمعنى الآية: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } من أهل الكتاب فإنّ لهم عليكم حجّة واهية.
{ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ } في انصرافكم إلى الكعبة وفي تظاهرهم عليكم في المحاجة والمجاوبة فانّي وليّكم أظهركم عليهم بالحجّة والنصرة.
{ وَٱخْشَوْنِي } في تركها ومخالفتها.
{ وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } عليكم عطف على قوله { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } ولكن أتمّ نعمتي بهدايتي ايّاكم إلى قبلة إبراهيم فتتمّ لكم الملّة الحنيفيّة وقال علي (كرّم الله وجهه): تمام النعمة: الموت على الإسلام، وروي عنه أيضاً إنّه قال: النّعم ستة: الإسلام والقرآن ومحمّد والستر والعافية والغنى ممّا في أيدي النّاس.
{ وَلَعَلَّكُمْ } في لعلّ ست لغات: علّ ولعلّ ولعنّ وعنّ ولعّا.
ولها ستة أوجه هي من الله عزّ وجلّ واجب، ومن النّاس على معاني قد تكون بمعنى الاستفهام كقول القائل: لعلّك فعلت ذلك مستفهماً.
وتكون بمعنى الظّن كقول القائل: قدم فلان فردّ عليه الرّاد: لعلّ ذلك.
بمعنى أظنّ وأرى ذلك.
وتكون بمعنى الإيجاب بمنزلة ما أخلقه كقوله: قد وجبت الصّلاة فيرد الرّاد: لعلّ ذلك أي ما أخلقه.
وأنشد الفرّاء:

لعلّ المنايا مرّة ستعود وآخر عهد الزائرين جديد

وتكون بمعنى الترجّي والتمنّي كقولك: لعلّ الله أن يرزقني مالاً، ولعلّني أحجّ.
وأنشد الفرّاء:

لعلّي في هدى أفي وجودي وتقطيعي التنوقة واختيالي
سيوشك أن يتيح إلى كريم ينالك بالذّرى قبل السؤال

ويكون بمعنى عسى تكون ما يراد ولا يكون كقوله: { { يٰهَامَانُ ٱبْنِ لِي صَرْحاً لَّعَـلِّيۤ أَبْلُغُ ٱلأَسْبَابَ } [غافر: 36]. أي عسى أبلغ.
وقال أبو داود:

فأبلوني بليتكم لعلّي أُصالحكم واستدرج نويا

أي نواي ويكون بمعنى كي على الجزاء كقوله: { { ٱنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } [الأنعام: 65] بمعنى لكي يفقهوا ونظائرها كثيرة وقوله: { وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي لكي تهتدوا من الضّلالة. قال الربيع: خاصم يهودي أبا العالية فقال: إنّ موسى كان يصلّي إلى صخرة بيت المقدس، فقال أبو العالية: كان يصلّي عند الصخرة إلى البيت الحرام فقال لي: بيني وبينك مسجد صالح فإنه نحته من الجبل فقال أبو العالية: قد صلّيت فيه وقبلته إلى البيت الحرام.
قال: فأخبر أبو العالية إنّه مرّ على مسجد ذي القرنين وقبلته الكعبة.
{ كَمَآ أَرْسَلْنَا } هنا الكاف للتشبيه ويحتاج إلى شيء يرجع إليه واختلفوا فيه فقال بعضهم: هو راجع إلى ما قبلها والكاف من ما قبلها تقديره: فلا تخشوهم واخشوني ولأتمّ نعمتي كما أرسلت فيكم رسولاً فيكون إرسال الرّسول شرطاً للخشية مزدّياً باتمام النّعمة.
وقيل: معناه ولعلّكم تهتدون كما أرسلنا.
وقال محمّد بن جرير: إنّ إبراهيم دعا بدعوتين فقال
{ { رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } [البقرة: 128] فهذه الدعوة الأولى.
والثانية قوله
{ { رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ } [البقرة: 129] فبعث الله الرسول وهو محمّد صلى الله عليه وسلم ووعد في هذه الآية أن يجيب الدّعوة الثانية أن يجعل من ذرّيته أمّة مسلمة لك فمعنى الآية: ولأتِم نعمتي عليكم: ببيان شرائع ملّتكم الحنيفية وأهديكم لدين خليلي إبراهيم.
{ كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ } يعني فكما أجبت دعوته بانبعاث الرّسول كذلك أجبت دعوته بأن أهديكم لدينه وأجعلكم مسلمين وهذا على قول من يجعله متصلاً بما قبلها وجواباً للآية الأولى وهو إختيار الفرّاء.
وقال بعضهم: إنّها متعلّقة بما بعدها وهو قوله { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ } تقديرها: كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم فاذكروني اذكركم فيكون جزأً له جوابان مقدّم ومؤخّر كما تقول: إذا جاءك فلان فآته ترضه. فقوله: فآته وترضه جوابان لقوله إذا جاءك وكقولك: إنّ تأتني أحسن إليك أكرمك وهذا قول مجاهد وعطاء والكلبي ومقاتل والأخفش وابن كيسان واختيار الزجّاج، وهذه الآية خطاب للعرب وأهل مكّة يعني: كما أرسلنا فيكم يا معشر العرب رسولاً منكم محمّد صلى الله عليه وسلم { يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا } يعني القرآن.
{ وَيُزَكِّيكُمْ } أي يعلّمون من الأحكام وشرائع الإسلام.
{ فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ } قال ابن عبّاس: أذكروني بطاعتي أذكركم بمعونتي بيانه قوله:
{ { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا } [العنكبوت: 69] الآية.
سعيد بن جبير: { فَٱذْكُرُونِيۤ } بطاعتي أذكركم بمغفرتي بيانه
{ { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [آل عمران: 132].
فضيل بن عيّاض: فاذكروني بطاعتي أذكركم بثوابي بيانه
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً * أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ } [الكهف: 30 - 31] وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من أطاع الله فقد ذكر الله وإنّ قلّت صلاته وصيامه وتلاوته القرآن" .
وقيل: اذكروني بالتوحيد والإيمان أذكركم بالجنّات والدرجات بيانه: { { وَبَشِّرِ ٱلَّذِين آمَنُواْ ... جَنَّاتٍ } [البقرة: 25].
وقال ابو بكر الصدّيق رضي الله عنه: كفى بالتوحيد عبادة وكفى بالجنّة ثواباً.
ابن كيسان: اذكروني بالشكر أذكركم بالزّيادة: بيانه قوله
{ { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [إبراهيم: 7].
وقيل: اذكروني على ظهر الأرض أذكركم في بطنها.
قال الأصفي: رأيت أعرابياً واقفاً يوم عرفة بالموقف وهو يقول: ضجّت إليك الأصوات بضروب اللّغات يسئلونك الحاجات وحاجتي إليك أن تذكرني عند البلى إذا نسيني أهل الدّنيا.
وقيل: أذكروني بالطّاعات أذكركم بالمعافاة ودليله
{ { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } [النحل: 97].
وقيل: أُذكروني في الخلاء والملاء أذكركم في الجلاء والملأ بيانه ما روي في بعض الكتب إنّ الله قال: أنا عند من عبدني، فليظن بي ما شاء، وأنا معه إذا ذكرني، فمن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في الملأ ذكرته في ملأ خير منه، ومن تقربّ إليّ شبراً تقرّبت له ذراعاً، ومن تقرّب إليّ ذراعاً، تقرّبت إليه باعاً ومن أتاني مشياً أتيته هرولة، ومن أتاني بقراب الأرض فضّة أتيته بمثلها مغفرة بعد أن لا يُشرك بي شيئاً.
وقيل: أُذكروني في النّعمة والرّخاء أذكركم في الشّدة والبلاء بيانه قوله
{ { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [الصافات: 143 - 144].
قال سلمان الفارسي: إنّ العبد إذا كان له دُعاء في السّر؛ فإذا انزل به البلاء قالت الملائكة: عبدك نزل به البلاء فيشفعون له فينجيه الله، فإذا لم يكن له دُعاء قالوا: الآن فلا تشفعون له. بيانه لفظة فرعون
{ { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ } [يونس: 91].
وقيل: أُذكروني بالتسليم والتفويض أذكركم بأصلح الأختبار. بيانه
{ { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [الطلاق: 3].
وقيل: أُذكروني بالشوق والمحبّة أذكركم بالوصل والقربة.
وقيل: أُذكروني بالحمد والثناء أذكركم بالجزاء، وقيل: أُذكروني بالأوبة أذكركم بغفران الحوبة، وقيل: أُذكروني بالدُّعاء أذكركم بالعطاء، أُذكروني بالسؤال أذكركم بالنوّال، أُذكروني بلا غفلة أذكركم بلا مهلة، أُذكروني بالندّم أذكركم بالكرم، أُذكروني بالمعذرة أذكركم بالمغفرة، أُذكروني بالإرادة أذكركم بالأفادة، أُذكروني بالتنصّل أذكركم بالتفضل أُذكروني الإخلاص أذكركم بالخلاص، أُذكروني بالقلوب أذكركم بكشف الكروب، أُذكروني بلا نسيان أذكركم بالأمان، أُذكروني بالأفتقار أذكركم بالاقتدار، أُذكروني بالأعدام والاستغفار أذكركم بالرّحمة والإغتفار، أُذكروني بالأيمان أذكركم بالجنان، أُذكروني بالأسلام أذكركم بالأكرام، أُذكروني بالقلب أذكركم برفع التعجب، أُذكروني ذكراً فانياً أذكركم ذكراً باقياً، أُذكروني بالإبتهال أذكركم بالأفضال، أُذكروني بالظل أذكركم بعفو الزلل، أُذكروني بالأعتراف أذكركم بمحو الاقتراف، أُذكروني بصفاء السّر أذكركم بخالص البّر، أُذكروني بالصّدق أذكركم بالرّفق، أُذكروني بالصفَو أذكركم بالعفو، أُذكروني بالتعظيم أذكركم بالتكريم، أُذكروني بالتكبير أذكركم بالتطهير، أُذكروني بالتمجيد أذكركم بالمزيد، أُذكروني بالمناجاة أذكركم بالنجاة، أُذكروني بترك الجفاء اذكركم بحفظ الوفاء، أُذكروني بترك الخطأ أذكركم بحفظ الوفاء، أُذكروني بالجهد بالخلقة أذكركم بأتمام النعمة، أُذكروني من حيث أنتم أذكركم من حيث أنا ولذكر الله أكبر.
الربيع في هذه الآية: إنّ الله ذاكر من ذكره، وزائداً من شكره، ومعذّبُ من كفره.
وقال السّدي: فيها ليس من عبد يذكر الله إلاّ ذكره الله. لا يذكره مؤمن إلاّ ذكره بالرّحمة، ولا يذكره كافر إلاّ يذكره بعذاب. وقال سفيان بن عيينة: بلغنا إنّ الله عزّ وجلّ قال: أعطيت عبادي مالوا أعطيته جبرئيل وميكائيل كنت قد اجزلت لهما قلت: أُذكروني أذكركم، وقلت لموسى : قل للظلمة لا يذكروني فإني أذكر من ذكرني، فإنّ ذكري إياهم أن إلعنهم.
وقال أبو عثمان النهدي: إنّي لأعلم حين يذكرني ربّي عزّ وجلّ، قيل : كيف ذلك؟
قال: إنّ الله عزّ وجلّ قال: { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ } وإذا ذكرت الله تعالى ذكرني.
{ وَٱشْكُرُواْ لِي } نعمتي.
{ وَلاَ تَكْفُرُونِ }.