التفاسير

< >
عرض

كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
٢١٦
يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأُوْلـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٢١٧
إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلـٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢١٨
-البقرة

الكشف والبيان

{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ } فُرض عليكم القتال، واختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال بعضهم: عنى بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة دون غيرهم، وقال ابن جريج قلت لعطاء: قوله: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } أواجب الغزو على الناس من أجلها أو كتب على أولئك حينئذ؟ وأجرى بعضهم الآية على ظاهرها فقال: الغزو فرض واجب على المسلمين كلّهم إلى قيام الساعة.
روى ابن أبي أنيسة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ثلاث من أصل الإيمان: الكفّ عمّن قال: لا إله إلاّ الله ما لم يره بذنب، ولا يخرجه من الاسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أُمتي الدّجال لا يبطنه ضنّ ولا شك، والإيمان بالأقدار" .
أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يغز ولم يحدّث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق" وقال بعضهم: هو فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط من الباقين.
عن أحمد بن أنمار: وردّ السلام وتشميت العاطس وهو القول الصحيح المشهور الذى عليه الجمهور.
وقال الزهري والأوزاعي: كتب الله الجهاد على الناس غزوا أو قعدوا، فمن غزا فبها ونعمت، ومن قعد فهو حرّ، إن استُعين به أعان وإنِ استنفر نفر وإنِ استغني عنه قعد، فإنما يرجح عليه عطاء الواجب المال وإلاّ فلا، من شاء غزا ومن شاء لم يغزُ، ويدلّ على صحة هذا القول قول الله تعالى
{ { فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى ٱلْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ } [النساء: 95]، ولو كان القاعدون مضيعين فرضاً لكان لهم السوأى لا الحسنى والله أعلم. { وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } شاقّ عليكم، واتفق القرّاء على ضم الكاف ههنا إلاّ أبا عبد الرحمن السلمي، فإنه قرأها { وَهُوَ كُرْهٌ } بفتح الكاف وهما لغتان بمعنى واحد، مثل الغَسل والغُسل، والضَّعف والضُّعف، والرَّهب والرُّهب، وقال أكثر أهل اللغة: الكُره بالضم المشقة وبالفتح الاجهاد. بعضهم: الكره بالفتح المصدر، وبالضم الاسم.
وقال أهل المعاني: هذا الكره من حيث نفور الطبع عنه لما يدخل فيه على المال من المؤونة وعلى النفس من المشقّة وعلى الروح من الخطر لأنهم أظهروا الكراهة أو كرهوا أمر الله عزّ وجلّ.
قال عكرمة: نسختها هذه الآية { وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } يعني أنهم كرهوه ثم أحبّوه { وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } قال الله عزّ وجلّ: { وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } لأن في الغزو أحد الحُسنيين إمّا الظفر والغنيمة، وإمّا الشهادة والجنة { وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً } يعني القعود عن الغزو { وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ } لما فيه من الذل والصغر وحرمان الغنيمة والأجر { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }.
قال ابن عباس:
" "كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا بن عباس ارضَ عن الله بما قدّر وإنْ كان خلاف هواك إنه مثبّت في كتاب الله.
قلت: يا رسول الله أين وقد قرأت القرآن، قال: مكانين { وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ }"
.
عاصم بن علي المسعودي قال: قال الحسن: لا تكره الملمات الواقعة والبلايا الحادثة فلربَّ أمر تكرهه فيه نجاتك، ولربّ أمر ترجوه فيه عطبك، وأنشد أبو سعيد الضرير:

ربَّ أمر تتقيه جرَّ أمراً ترتضيه خفي المحبوب منه وبدا المكروه فيه

وأنشد محمد بن عرفة لعبد الله بن المعتز:

لا تكره المكروه عند نزوله إن الحوادث لم تزل متباينه
كم نعمة لا تستقل بشكرها لله في درج الحوادث كامنه

عبد الرحمن بن أبي حاتم عن أبيه قال: بعث المتوكل إلى محمد بن الليث رسولاً وقد كان بقي مدة في منزله فلمّا أتاه الرسول (امتثل) فركب بلا روح خوفاً فمرّ به رجل وهو يقول:

كم مرّة حفّت بك المكاره خارَ لك الله وأنت كاره

فلمّا دخل على المتوكل ولاّه مصر وأمر له بمائة ألف وجميع ما يحتاج إليه من الآلات والدواب والغلمان.
قال الثعلبي: أنشدني الحسن بن محمد قال: أنشدني أبو سعيد أحمد بن محمد بن رميح قال: أنشدني محمد بن الفرحان:

كم فرحة مطوية لك بين أثناء النوائب ومضرّة قد أقبلت من حيث تنتظر المصائب

قال: وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدنا أبو عبد الله الوضاحي:

ربّما خُيّر الفتى وهو للخير كاره ثم يأتي السرور من حيث تأتي المكاره

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ } الآية، قال المفسّرون:" "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش وهو ابن عمّة النبي صلى الله عليه وسلم في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين على رأس ستة عشر شهراً من مقدمه المدينة، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين: سعد بن أبي وقاص الزهري وعكاشة بن محصن الأسدي وعتبة بن غزوان السلمي وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وسهيل بن بيضاء وعامر بن ربيعة وواقد بن عبد الله وخالد بن بكر وكتب بإمرة عبد الله بن جحش كتاباً وقال: سر على اسم الله ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين، فإذا نزلت منزلين فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك، ثم امضِ لما أمرتك، ولا تُكرهنّ أحداً من أصحابك على السير معك، فسار عبد الله يومين ثم نزل وفتح الكتاب فاذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فسر على بركة الله بمن تبعك من أصحابك حتى تنزل بطن نخلة فترصّد بها عير قريش لعلّك أن تأتينا منه بخبر، فلمّا نظر عبد الله بن جحش قال: سمعاً وطاعة ثم قال ذلك لأصحابه وقال: إنه قد نهاني أن استكره أحداً منكم، فمن كان يريد الشهادة فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فإني ماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم مضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له: نجوان أضلّ سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يتعقبانه فاستأذنا أن يتخلّفا في طلب بعيرهما، فأذن لهما فتخلفا في طلبه، ومضى عبد الله ببقيتهم حتى نزلوا بطن نخلة بين مكة والطائف، فبينا هم كذلك إذ مرّ بهم عير لقريش تحمل زبيباً وأديماً وتجارة من تجار الطائف فيهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ونوفل ابن عبد الله المخزوميان، فلمّا رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خافوهم، فقال عبد الله بن جحش: إنّ القوم قد ذعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منكم فليتعرض لهم فإذا رأوه محلوقاً أمِنُوا، وقالوا: قوم عُمّار، فحلقوا رأس عكاشة ثم أشرف عليهم وقالوا: قوم عُمّار لا بأس عليكم فأمنّوهم.
وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة وكانوا يرون أنّه من جمادى وهو من رجب، فتشاور القوم بينهم وقالوا: لئن تركتموهم هذه الليلة لتدخلنّ الحرم فليمنعنّ منكم فأجمعوا أمركم في مواقعة القوم فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، فكان أول قتيل من المشركين واستأسرا الحكم وعثمان فكانا أول أسيرين في الاسلام وأفلت الآخران فأعجزاهم، واستاق المؤمنون العير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقالت قريش: قد استحلّ محمد الشهر الحرام، شهراً يأمن فيه الخائف وينذعر فيه الناس لمعايشهم، فسفك فيه الدماء، وأخذ فيه الحرائر، وعيّر بذلك أهل مكة من كان بها من المسلمين، وقالوا: يا معشر الصباة استحللتم الشهر الحرام وقاتلتم فيه، وتفاءلت اليهود بذلك وقالوا: واقد: وقدت الحرب وعمروا: عمرت الحرب، والحضرمي: حضرت الحرب.
وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لابن جحش وأصحابه: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، ودفعتُ العير والأسيرين فأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً، فعظم ذلك على أصحاب السريّة وظنّوا أن قد هلكوا وسقطوا في أيديهم وقالوا: يا رسول الله إنّا قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أمسينا أم في جمادى، وأكثر الناس في ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية فأخذ رسول الله العير فعزل منها الخمس، فكان أول خمس في الاسلام، وقسّم الباقي بين أصحاب السريّة، فكان أول غنيمة في الاسلام، وبعث أهل مكة في فداء أسيرهم فقال: بل نوقفهم حتى يقدم سعد وعتبة وإن لم يقدما قتلناهما، فلمّا قدما فداهم"
.
وأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقُتل يوم بئر معونة شهيداً، وأمّا عثمان بن عبد الله فرجع إلى مكة ومات فيها كافراً، وأمّا نوفل فضَرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق على المسلمين، فوقع في الخندق مع فرسه فتحطّما جميعاً، وقتله الله وحجب المشركون جيفته بالثمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوه فإنّه خبيث الجيفة خبيث الدية" فهذا سبب نزول قوله: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ } يعني توخياً، سُمّي بذلك لتحريم القتال فيه لعظم حرمته، وكذلك كان يسمّى في الجاهلية، تنزع الأسنّة وتفصل الالّ، لأنهم كانوا ينزعون الأسنّة والنصال عند دخول رجب انطواءً على ترك القتال فيه، وكان يدعى الأصمّ لأنه لا تسمع فيه قعقعة السلاح فنسب الصمم إليه، كما قيل: ليل نائم، وسرٌّ كاتم.
يدلّ عليه ما روى عطاء عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن رجب شهر الله ويدعى الأصمّ، وكان أهل الجاهلية إذا دخل رجب يعطلون أسلحتهم ويضعونها، وكان الناس يأمنون ويأمن السبيل فلا يخاف بعضهم بعضاً حتى ينقضي" .
{ قِتَالٌ فِيهِ } خفضه على تكرير (عن)، تقديره: وهل قتال فيه وكذلك هي في قراءة عبد الله ابن مسعود والربيع بن أنس { قُلْ } يامحمد { قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } عظيم ثم [كلام] ثم قتال { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } منع عن سبيل الله على الابتداء وخبره أكبر، وذلك حين منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت { وَكُفْرٌ بِهِ } أي بالله { وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } أي وبالمسجد { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ } أي أهل المسجد { مِنْهُ أَكْبَرُ } وأعظم وزراً وعقوبة { عِندَ ٱللَّهِ وَٱلْفِتْنَةُ } أي الشرك أكبر من القتل، يعني قتل ابن الحضرمي فلمّا نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن جحش الى مؤمني مكّة: إذا عيّركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام فعيرّوهم أنتم بالكفر وإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكّة ومنعهم عن البيت.
ثم قال: { وَلاَ يَزَالُونَ } يعني مشركي قريش وهو فعل لا مفعول له مثل عسى { يُقَاتِلُونَكُمْ } يا معشر المؤمنين { حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ } يصدّوكم ويصرفوكم { عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ } جزم بالنسق ولو كان جواباً لكان (...) { وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلۤـٰئِكَ حَبِطَتْ } بطلت { أَعْمَالُهُمْ } حسناتهم { فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } وأصل الحبط من الحباط (وهو من الحبط وهو فساد يلحق الماشية في بطونها لأكل الحباط) وهو أن تنتفخ بطنه فيموت، ثم سمّي الهلال حبطاً، وقرأ الحسن حَبطت بفتح الباء في جميع القرآن يحبط بكسر الباء { وَأُوْلۤـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } فقال أصحاب السريّة: يا رسول الله هل (نؤثم) على رجبنا وهل نطمع أن يكون سفرنا هذا غزواً؟ فأنزل الله تعالى { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ } فارقوا عشائرهم ومنازلهم وأموالهم { وَجَاهَدُواْ } المشركين في نصرة الدين { فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } في طاعة الله، فجعلها جهاداً { أُوْلۤـٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.