التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
٢٥٨
أَوْ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَٱنْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَٱنْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَٱنْظُرْ إِلَى ٱلعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٥٩
-البقرة

الكشف والبيان

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ } أي خاصم وجادل وأصلها من الحجّة، وهو نمرود بن كنعان بن سخاريب بن كوش بن سام بن نوح وهو أول مَنْ وضع التاج على رأسه وتجبّر في الأرض وادّعى الربوبيّة { أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ } أي لأنّ أتاه الله الملك فطغى، وموضع (أن) نصب بنزع حرف الصفة.
العلاء بن عبد الكريم الأيامي عن مجاهد. قال: ملك الأرض مؤمنان وكافران، فأمّا المؤمنان فسليمان بن داود وذو القرنين، وأمّا الكافران فنمرود وبخت نصر.
واختلفوا في وقت هذه المناظرة، فقال مقاتل: لما كسّر إبراهيم الأصنام سجنه نمرود ثم أخرجه ليحرقه بالنار، فقال له: مَنْ ربّك الذي تدعونا إليه؟
قال: ربّي الذي يُحيي ويُميت.
وقال آخرون: كان هذا بعد إلقائه في النار.
عبد الرزاق عن معمّر بن زيد بن أسلم: أن أوّل جبار في الأرض كان نمرود بن كنعان وكان الناس يخرجون فيمتارون من عنده الطعام.
قال: فخرج إبراهيم عليه السلام يمتار.
فإذا مرّ به أُناس قال: مَنْ ربّكم؟
قالوا: أنت، حتّى مرّ به إبراهيم قال: مَنْ ربّك، قال: الذي يُحيي ويُميت. كما ذكره الله تعالى.
قال: فردّه بغير طعام فرجع إبراهيم عليه السلام إلى أهله فمرّ على كثيب من رمل أعفر فقال: ألا أخذ من هذا فأتي به أهلي فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم، فأخذ منه فأتى به أهله فوضع متاعه ثم نام فقامت امرأته إلى متاعه ففتحته فإذا هو أجود طعام رآه أحد فصنعت له منه فقرّبت إليه وكان عهد بأهله ليس لهم طعام.
فقال: من أين هذا؟
قالت: من الطعام الذي جئت به، فعرف أنّ الله رزقه فحمد الله.
قال: ثم بعث الله مَلَكاً إلى الجبّار أن آمِن بيّ فأتركك على ملكك، فقال نمرود: وهل ربّ غيري؟
فجاءه الثانية فقال له مثل ذلك، فأبى عليه، ثم أتاه الثالثة فأبى عليه وقال: لا أعرف الذي تقول، ألربك جنود؟
قال: نعم.
قال: فليقاتلني إنّ كان ملكاً فإنّ الملوك يقاتل بعضهم بعضاً.
قال له الملك: نعم إن شئت، قال: قد شئت.
قال: فاجمع جندك إلى ثلاثة أيام حتّى تأتيك جنود ربّي.
قال: فجمع الجبّار جنوده.
فأوحى الله عزّ وجلّ إلى خزنة البعوض أن افتحوا منها ففتحوا باباً من البعوض، فلما أصبح اليوم الثالث نظر نمرود إلى الشمس فقال: ما بالها لا تطلع، وظنّ أنّها أُبطئت، فقال الملك: حال دونها جنود ربّي.
قال: فأحاطت بهم البعوض فأكلت لحومهم وشربت دماءهم فلم يبق من الناس والدواب إلاّ العظام ونمرود كما هو لم [يصبه] شيء.
فقال له الملك: أتؤمن الآن؟
قال: لا.
فأمر الله عزّ وجلّ بعوضة فقرصت شفته السفلى فشربت وعظمت، ثم قرصت شفته العليا فشربت وعظمت، ثم دخلت منخره وصارت في دماغه وأكلت من دماغه حتّى صارت مثل الفأرة فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق، فأرحم الناس به من كان يجمع يده ثم يضرب به رأسه فعذّبه الله أربعمائة سنة كما ملك أربعمائة سنة.
قال الله عزّ وجلّ: { إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ } وهو جواب سؤال سابق غير مذكور تقديره: قال له: مَنْ ربّك؟
قال إبراهيم: { رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ }.
قرأ الأعمش وحمزة وعيسى: { رَبِّيَ ٱلَّذِي } بإسكان الياء، وقرأ الباقون بفتحه لمكان الألف واللام.
فقال نمرود: { أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ }.
قرأ أهل المدينة (أنا) بالمدّ في جميع القرآن، وهو لغة قوم يجعلون الوصل فيه كالأصل.
وأنشد الكسائي:

أنا سيف العشرة فاعرفوني حميد قد تذرّيت السناما

وقال آخر:

أنا عبيد الله [يميني] عمرْ خير قريش من مضى ومن غبر
إلاّ رسول الله والشيخ الأغر

والأصل في (أنا) أن تفتح النون وابتغي لها الوقت فكتبت ألفاً على نيّة الوقف فصار: أنا. وأكثر العرب يقول في الوقف: أنّه.
قال أكثر المفسّرين: دعا نمرود برجلين فقتل أحدهما واستحيا الآخر فسمّى ترك القتل إحياءً.
كقوله:
{ { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } [المائدة: 32] أي لم يقتلها.
وقال السدي في قوله تعالى: { أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ } قال: أخذ أربعة نفر فأدخلهم بيتاً فلا يُطعمون ولا يُسقون حتّى إذا أشرفوا على الهلاك أطعم اثنين وسقاهما وترك اثنين فماتا، فانتقل إبراهيم إلى حجّة أخرى لا عجزاً لأن له أن يقول: فأحي مَنْ أمتّ إن كنت صادقاً، بل إيضاحاً بالحجّة فقال: { قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ } كلّ يوم { مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ } أي تحيّر ودُهش وانقطعت حجّته.
يقال: رجل مبهوت، أي مدهوش.
قال الشاعر:

ألا إنّ لرئاها فجأة فأبهت حتّى ما أكاد أسير

وقرأ محمد بن السميقع اليماني: { فَبُهِتَ } بفتح الباء والهاء أي بهته إبراهيم. تصديقه قوله تعالى: { { بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ } [الأنبياء: 40] أي تدهشهم.
{ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } إلى الحجّة { أَوْ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ } هذا عطف على معنى الآية الأولى تقديره: هل رأيت كالذي حاج إبراهيم في ربّه، أو هل رأيت كالذي مرّ على قرية.
قال بعض نحّاة البصرة: (الكاف) صلة كأنّه قال: ألم ير إلى الذي أو الذي.
واختلفوا في ذلك المارّ من هو، فقال قتادة والربيع وعكرمة وناجية بن كعب وسليمان بن بريدة والضحاك والسدي وسليم الخواص: هو عزير بن شرحيا.
وقال وهب بن منبّه وعبد الله بن عبيد بن عمير: هو أرميا بن خلفيا وكان من سبط هارون ابن عمران، وهو الخضر.
وقال مجاهد: هو رجل كافر شكّ في البعث.
واختلفوا في القرية التي عليها، فقال وهب وعكرمة وقتادة والربيع: هي بيت المقدّس، وقال الضحاك: هي الأرض المقدّسة، وقال ابن زيد: الأرض التي أهلك الله فيها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر موت.
وقال الكلبي: هي دير سائداباذ، وقال السدي: هي سلماباذ، وقيل: دير هرافيل، وقيل: قرية العنب وهو على فرسخين من بيت المقدس.
{ وَهِيَ خَاوِيَةٌ } ساقطة، يقال: خوى البيت يخوى خوىً مقصوراً إذا سقط، وخوى البيت بالفتح خواً ممدود إذا خلا.
{ عَلَىٰ عُرُوشِهَا } سقوفها وأبنيتها واحدها عرش وجمعه القليل: أعرش، وكلّ بناء عرش، يقال: عرش فلان، إذا بنى فهو يعرش ويعرش عرشاً، قال الله:
{ { وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ } [الأعراف: 137] أي يبنون.
ومعنى الآية: إنّ السقوف سقطت ثم وقعت الحيطان عليها.
وقيل: (على) بمعنى مع، أي خاوية مع عروشها.
قال الشاعر:

كأن مصفحات في ذراه وأبراجاً عليهن المآلي

أي معهن.
نظيرها في سورة الكهف والحجّ.
{ قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } وكان السبب في ذلك على ماروى محمد بن إسحاق عن وهب بن منبّه: إن الله سبحانه وتعالى قال لأرميا عليه السلام حين بعثه نبيّاً إلى بني إسرائيل: يا أرميا من قبل أن خلقتك اخترتك، ومن قبل أن أُصوّرك في رحم أُمّك قدّستك، ومن قبل أن تبلغ السعي نبّأتك ولأمر عظيم أحببتك. فبعث الله أرميا إلى ناشئة بن أموص ملك بني إسرائيل ليسدده ويأتيه بالخبر من الله تعالى، فعظمت الأحداث في بني إسرائيل فركبوا المعاصي واستحلّوا المحارم، فأوحى الله تعالى إلى أرميا أن ذكّر قومك نعمي وعرّفهم أحداثهم فادعهم إليّ.
فقال أرميا: إنّي ضعيف إنّ لم تقوّني عاجز إن لم تنصرني.
فقال الله تعالى: أنا ألهمك، فقام أرميا فيهم ولم يدر ما يقول، فألهمه الله عزّ وجلّ في الوقت خطبة بليغة طويلة بيّن لهم فيها ثواب الطاعة وعقاب المعصية.
وقال في آخرها: وإنّي أنا الله بعزتي لأقضين لهم فتنة يتحيّر فيها الحليم ولأسلطنّ عليهم جبّاراً قاسياً ألبسه الهيبة وأنزع من قلبه الرحمة يتّبعه عدد مثل سواد الليل المظلم.
فأوحى الله تعالى إلى أرميا: إنّي مهلك بني اسرائيل بيافث ويافث، أهل بابل وهم من ولد يافث بن نوح، فلمّا سمع ذلك أرميا صاح وبكى وشقّ ثيابه ونبذ الرماد على رأسه فلما سمع الله تضرّع أرميا وهو الخضرعليه السلام وبكاه ناداه: يا أرميا أشق عليك ما أوحيت إليك؟
قال: نعم يارب، أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أسرّ به.
فقال الله عزّ وجلّ: وعزّتي لا أهلك بني اسرائيل حتّى يكون الأمر في ذلك من قبلك، ففرح بذلك أرميا وطابت نفسه، وقال: والذي بعث موسى بالحق لا أرضى بهلاك بني اسرائيل، ثم أتى الملك فأخبره بذلك وكان ملكاً صالحاً فاستبشر وفرح وقال: إن يُعذّبنا ربّنا فبذنوب كثيرة لنا وإنّ عفا عنّا فبرحمته.
ثم إنّهم لبثوا بعد الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلاّ معصية وتمادياً في الشر وذلك حين اقترب هلاكهم، فقل الوحي ودعاهم الملك إلى التوبة فلم يفعلوا، فسلّط الله عليهم بخت نصّر فخرج في ستمائة ألف راية تريد أهل بيت المقدس، فلما فصل سائراً أتى الخبر الملك فقال لأرميا: أين مازعمت أن الله أوحى إليك؟
فقال أرميا: إنّ الله لا يخلف الميعاد وأنا به واثق.
فلما قرب الأجل وعزم الله تعالى على هلاكهم، بعث الله إلى أمريا مَلَكاً قد تمثّل له رجلاً من بني إسرائيل.
فقال: يا نبي الله أستعينك في أهل رحمي وصلت أرحامهم ولم أت إليهم إلاّ حيناً ولا يزيدون مع إكرامي إياهم إلاّ اسخاطاً لي فأفتني فيهم، فقال له: أحسن فيما بينك وبين الله وصلهم وأبشر بخير.
فانصرف المَلَك فمكث أياماً ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل فقعد بين يديه، فقال له أرميا: أوماظهرت أخلاقهم لك بعد؟
قال: يانبي الله والذي بعثك بالحقّ ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلى أهل رحمة إلاّ قدّمتها إليهم وأفضل.
فقال النبيّ: أرجع إلى أهلك وأحسن إليهم واسأل الله تعالى الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلحهم، فقام المَلَك فمكث أياماً وقد نزل بخت نصر وجنوده حول بيت المقدس أكثر من الجرّاد ففزع بني اسرائيل وشقّ عليهم.
فقال المَلِك لارميا: يانبي الله أين ما وعدك الله؟
قال: إنّي بربّي واثق.
ثم أقبل المَلَك إلى أرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس فضحك واستبشر بنصر ربّه الذي وعده فقعد بين يديه وقال: أنا الذي أنبأتك في شأن أهلي مرّتين.
فقال النبيّ: ألم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه؟
فقال المَلَك: يانبي الله كلّ شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم أصبر عليه فاليوم رأيتهم في عمل لا يرضى الله عزّ وجلّ به.
فقال النبي: على أي عمل رأيتهم؟
قال: عمل عظيم من سخط الله فغضبت لله ولك وأتيتك لأخبرك وإنّي أسألك بالله الذي بعثك بالحق إلاّ ما دعوت الله عليهم ليهلكهم.
فقال أرميا: يا مَالك السماوات والأرض إنّ كانوا على حق وصواب فابقهم وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكهم.
فلما خرجت الكلمة من فم أرميا أرسل الله عزّ وجلّ صاعقة من السماء في بيت المقدس والتهب مكان القربان وخسف سبعة أبواب من أبوابها.
فلما رأى ذلك أرميا صاح وشق ثيابه ونبذ الرماد على رأسه، وقال: يا مَالك السماوات والأرض أين ميعادك الذي وعدتني؟، فنودي أنّه لم يصبهم الذي أصابهم إلاّ بفتياك ودعائك، فاستيقن النبيّ أنّها فتياه التي أفتى بها، وأنه رسول ربه.
فطار أرميا حتّى خالط الوحوش، ودخل بخت نصّر وجنوده بيت المقدس ووطىء الشام وقتل بني إسرائيل حتّى أفناهم وخرّب بيت المقدس، ثم أمر جنوده أن يملأ كلّ رجل منهم ترسه تراباً ثم يقذفه في بيت المقدس فقذفوا فيه التراب حتى ملاؤه، ثم أمرهم أن يجمعوا مَنْ كان في بلدان بيت المقدس كلّهم فاجتمع عنده كلّ صغير وكبير من بني إسرائيل واختار منهم مائة ألف صبي فقسّمهم بين الملوك الذين كانوا معه فأصاب كلّ رجل منهم أربعة أغلمة، وفرّق بخت نصّر مَنْ بقى من بني إسرائيل ثلاث فرق: فثلثاً أقرّ بالشام، وثلثاً أسر، وثلثاً قتل، فكانت هذه الواقعة الأولى التي أنزلها الله ببني إسرائيل بظلمهم.
فلما ولّى بخت نصّر عنهم راجعاً إلى بابل ومعه سبايا بني إسرائيل، أقبل أرميا على حمار له معه عصير عنب في زُكرة وسلّة تين حتّى أتى ايليا فلما وقف عليها ورأى خرابها قال: { أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا }؟!
وقال الذين قالوا إن هذا المارّ كان عزيراً: إن بخت نصّر لما خرّب بيت المقدس وأقدم بسبي بني إسرائيل إلى أرض بابل كان فيهم عزير وكان من علماء بني إسرائيل، ودانيال وسبعة آلاف من أهل بيت داود.
فلما نجا عزير من بابل ارتحل على حمار حتّى نزل على دير هرقل على شط دجلة، فطاف في القرية فلم يرَ فيها أحد وعلم بخبرها، فأكل من الفاكهة وعصر من العنب فشرب منه وجعل فضل الفاكهة في سلّة وفضل العصير في زق فلما رأى خراب القرية وهلاك أهلها قال: { أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } [البقرة: 259]. لم يشك في البعث ولكن قالها تعجبّاً.
رجعنا إلى حديث وهب: قال: ربط أرميا حماره بحبل جديد فألقى الله عليه النوم، فلمّا نام نزع منه الروح مائة سنة وأمات حماره، وعصيره وتينه عنده، وأعمى الله عنه العيون فلم يره أحد وذلك ضحى، ومنع الله السباع والطير لحمه. فلمّا مضى من موته سبعون سنة أرسل الله عزّ وجلّ مَلَكاً إلى ملك من بني اسرائيل عظيم يقال له: [يوسك] فقال: إنّ الله عزّ وجلّ يأمرك أن تنفر قومك فتعمّر بيت المقدس وإيليا وأرضها حتّى تعود أعمر ما كان، فانتدب الملك ألف قهرمان مع كلّ قهرمان ثلاثمائة ألف عامل وجعلوا يعمّرونها، وأهلك الله تعالى بخت نصّر ببعوضة دخلت دماغه [...] الله تعالى مَنْ بقى من بني إسرائيل ولم يمت ببابل وردّهم جميعاً إلى بيت المقدس ونواحيه، فعمّروه ثلاثين سنة وكثروا حتى صاروا كأحسن ما كانوا عليه، فلما مضت المائة أحيا الله تعالى منه عينيه وسائر جسده ميّت، ثم أحيا جسده وهو ينظر، ثم نظر إلى حماره وإذا عظامه متفرّقة بيض تلوّح، فسمع صوتاً من السماء: أيّها العظام البالية إنّ الله يأمرك أن تجتمعي، فاجتمع بعضها إلى بعض واتصل بعضها ببعض.
ثم نودي: إنّ الله يأمرك أن تكتسي لحماً وجلداً، فكان كذلك، ثم نُودي: إنّ الله يأمرك أن تحيي، فقام بأذن الله ونهق الحمار.
وعمّر الله أرميا، فهو الذي يُرى في الفلوات فذلك قوله تعالى: { فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } أي أحياه.
{ قَالَ كَمْ } إستفهام عن مبلغ العدد { لَبِثْتَ } قرأ ابن محيص والأعمش وأبو عمرو وحمزة والكسائي: لبث ولبثتم بالإدغام في جميع القرآن. الباقون بالإظهار.
فمَنْ أدغم فلا يجاوره في المخرج والمشاكلة في الهمس، ومَنْ أظهر [فلإظهارها] في المصحف، وكلاهما غريبان فصيحان ومعناه: كم مكثت وأقمت هاهنا. يقال: لبث يلبث لبثاً والباثاً.
{ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً } وذلك إنّ الله تعالى أماته ضحى في أول النهار وأحياه بعد مائة عام في آخر النهار قبل غيبوبة الشمس، فقال: { لَبِثْتُ يَوْماً } وهو يرى إنّ الشمس قد غربت، ثم التفَتَ فرأى بقيّة من الشمس فقال: { أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } بمعنى بل بعض يوم، لأن قوله { بَعْضَ يَوْمٍ } رجوع عن قوله: { لَبِثْتُ يَوْماً } كقوله:
{ { أَوْ يَزِيدُونَ } [الصافات: 147].
{ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَٱنْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ } يعني التين { وَشَرَابِكَ } يعني العصير { لَمْ يَتَسَنَّهْ } قرأ حمزة والكسائي بحذف الهاء وَصْلاً وكذلك في قوله
{ { فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } [الأنعام: 90].
وقرأ الباقون بالهاء فيها وصلاً ووقفاً. وذكر أبو حاتم عن طلحة { لَمْ يَتَسَنَّهْ } بادغام التاء في السين وزعم أنّه في حرف أُبيّ كذلك ومعناه: لم تغيّره السنون.
فمن أسقط الهاء في الوصل حول الهاء صلة زائدة، وقال: أصله لم يتسنّي فحذف الياء بالجزم وأبدل منها هاء في الوقف، وهذا على قول من جعل الهاء في السنة زائدة.
وقال: أصلها يسنوه وجمعها سنوات والفعل منه سانيت مساناة وتسنّيت تسنّياً، إلاّ أن الواو يردّ إلى الباقي التفعّل والتفاعل، كقولهم: التداعي والتداني؛ لأن الياء أخف من الواو.
وقال أبو عمر: وهو من التسنن بنونين، وهو التغيير كقوله:
{ { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [الحجر: 26] أي متغيّر ثم عوّضت عن إحدى النونين كقول الشاعر:

فهلا إذ سمعت بحثت عنه ولم تمس الحكومة بالتطنّي

أراد بالتعيّن.
قال العجّاج:

تفصّي البازي إذ البازي كسر

أراد تفضض.
وتقول العرب: نتلعى، إذا خرجوا في إجتناء نبت ناعم يقال له المقاع.
قال الله تعالى:
{ { وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } [الشمس: 10] أي دسَّسها.
ومن أثبت الهاء في الحالين جعلها هاءً أصلّيّة لام الفعل، وعلى هذا قول من جعل السنة سنهية وتصغيرها سنيهة والفعل منه المسانهة.
قال الشاعر:

ليست بسنهاء ولا رجبية ولكن عرايا في السنين الجوائح

فإن قيل: أخبر عن شيئين اثنين ثم قال: { لَمْ يَتَسَنَّهْ } ولم يثنه، قيل: لأن التغيير راجع إلى أقرب اللفظين وهو السنوات، واكتفى بذكر أحد المذكورين عن الآخر لأنّه في موضع الفاني كقول الشاعر:

[عقاب عقبناه كان وظيفه وخرطوعة إلاّ على سنان فلوج]

ولم يقل سنانان فلوجان، ودليل هذا التأويل قراءة ابن مسعود: فانظر إلى طعامك وهذا شرابك لم يتسنّه.
{ وَٱنْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ } قال أكثر العلماء: في الآية تقديم وتأخير، أي وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه ولنجعلك آية للناس وأنظر إلى حمارك، ويحتمل أن يكون [المعنى]: فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه وأنظر إلى حمارك.
{ وَٱنْظُرْ إِلَى ٱلعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً }.
فأمّا تفسير الآية والقراءات فيها فقرأ خارجة والأعرج وعيسى بن عمر وابن عامر وأبو عمرو وحمزة والكسائي حمارك والحمار بالأمالة، الباقون بالتفخيم، وقوله تعالى: { كَيْفَ نُنْشِزُهَا }. قرأ أُبي بن كعب وعبد الله بن عامر والأعمش وحمزة والكسائي وخلف: ننشزها بالزاء وضم النون وكسر الشين.
وروى أبو العالية عن زيد بن ثابت قال: إنّما هي راء قرؤها زاء أي أنقطها. وكذلك روى معاوية بن قرّة عن ابن عباس بالزاي واختاره أبو عبيدة.
وانشاز الشيء: رفعه ونقله وإزعاجه، فقال: أنشزته فنشز، أي رفعته فارتفع، ومنه نشز المرأة على زوجها ونشز الغلام، أي ارتفع، فمعنى الآية: كيف نرفعها من الأرض فنردّها إلى أماكنها من الجسد ونركّب بعضها على بعض.
قال ابن عباس والسدي: نخرجها، والكسائي: فننبتها ونعظّمها.
قتادة وعطاء وأبو جعفر وشيبة ونافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وأيوب: ننشرها بالراء وضمّ النون وكسر الشين، وأختاره أبو حاتم، ومعناه: نحييها.
فقال: أنشر الله الميّت إنشاراً فينشر هو نشوراً، قال الله تعالى:
{ { ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } [عبس: 22]. وقال: { { هُمْ يُنشِرُونَ } [الأنبياء: 21]، وقال: { { بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً } [الفرقان: 40] وقال: { { كَذَلِكَ ٱلنُّشُورُ } [فاطر: 9]. { { وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ } [الملك: 15]. وقال حارثة بن بدر الغداني:

فأنشر موتاها وأقسط بينها فبان وقد ثابت إليها عقولها

وقال الأعشى في اللازم:

حتّى يقول الناس ممّا رأوا يا عجباً للميّت الناشر

وقرأ الحسن والمفضّل ننشرها بالراء وفتح النون وضمّ الشين.
قال الفرّاء: ذهب إلى النشر والطي.
وقال بعضهم: هو من الإحياء أيضاً، يقال: أنشر الله الميّت ونشره إذا أحياه، قال أبو حاتم: وليس بالمعروف.
وقرأ النخعي بالزاء وفتح النون وضم الشين.
قال أبو حاتم ذلك غلط، وقال غيره: يقال نشزه [ونشطه] وأنشزه بمعنى واحد.
{ ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً } أي نكسوها ونواريها به كما نواري الجسد بالثوب، واختلفوا في معنى الآية، فقال بعضهم: أراد به عظام حماره وذلك أن الله تعالى أمات حماره ثم أحياه خلقاً سويّاً وهو ينظر.
قال السدي: إنّ الله أحيا عزيراً ثم قال انظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه، فبعث الله عزّ وجلّ ريحاً فجاءت بعظام الحمار من كلّ سهل وجبل ذهبت به الطير والسباع واجتمعت فركّب بعضها في بعض وهو ينظر فصار حماراً من عظام ليس فيه لحم ولا دم، ثم كسا العظام لحماً ودماً فصار حماراً ليس فيه روح، ثم أقبل مَلَك يمشي حتّى أخذ منخر الحمّار فنفخ فيه فقام الحمار ونهق بإذن الله.
ومعنى الآية على هذا القول: وانظر إلى لحم حمارك وإلى عظامه كيف ننشزها، فلما حذف الهاء من العظام أبدل الألف و.............. وعلى هذا أكثر المفسّرين.
وقال آخرون: أراد به عظام هذا الرجل نفسه، وذلك أنّ الله تعالى لم يمت حماره فأحيا الله عينيه، ورأسه وسائر جسده ميّت، ثم قال له: انظر إلى حمارك، فنظر فرأى حماره قائماً واقفاً كهيئة يوم ربطه حيّاً لم يطعم ولم يشرب مائة عام ونظر إلى الرقية في عنقه جديداً لم تتغيّر.
وتقدير الآية على هذا القول: فانظر إلى حمارك وانظر إلى عظامك كيف ننشزها. وهذا قول الضحاك وقتادة والربيع وابن زيد.
{ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ } فعلنا ذلك [لنجعلك]. وإن شئت جعلت الواو مفخّمة زائدة، كقول الشاعر الأسود بن جعفر:

فإذا وذلك لا مهاة لذكره والدهر يعقب صالحاً بفساد

أي فإذا ذلك.
ومعنى الآية: فعلنا هذا بك لنجعلك آية للناس، أي عبرة ودلالة على البعث بعد الموت، قاله أكثر المفسّرين.
وقال الضحاك وغيره: هذه الآية أنّه عاد إلى قريته شاباً وإذا أولاده وأولاد أولاده شيوخ وعجائز وهو أسود الرأس واللحية.
وروى قتادة عن كعب وعن الحسن ومقاتل وجويبر عن الضحاك عن ابن عباس، وعبد الله ابن إسماعيل السدي عن أبيه عن مجاهد عن ابن عباس قالوا: لمّا أحيا الله عزيراً بعدما أماته مائة سنة ركب حماره حتّى أتى محلّته فأنكره الناس وأنكر الناس وأنكر منازله، فانطلق على وهم منه حتّى أتى منزله فإذا بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة كانت أمةً لهم فخرج عنهم عزير وهي بنت عشرين سنة كانت عرفته وكفلته فلما أصابها الكبر أصابها الزمانة فقال لها عزير: ياهذه أهذا منزل عزير؟
قالت: نعم هذا منزل عزير وبكت وقالت: ما رأيت أحداً من كذا وكذا سنة يذكر عزيراً وقد نسيه الناس، قال: فإنّي أنا عزير.
قالت: سبحان الله إنّ عزيراً قد فقدناه من مائة سنة فلم نسمع بذكره.
قال: فإنّي أنا عزير كان الله عزّ وجلّ أماتني مائة سنة ثم بعثني.
قالت: فإنّ عزيراً كان مستجاب الدعوة يدعو للمريض وصاحب البلاء بالعافية والشفاء، فادع الله حتّى يردّ عليّ بصري حتى أراك فإنّ كنت عزيراً عرفتك، قال: فدعا ربّه ومسح يده على عينيها ففتحت وأخذ بيدها وقال: قومي بإذن الله، فاطلق الله عزّ وجلّ رجليها فقامت صحيحة بإذن الله كأنّها نشطت من عقال، فنظرت فقالت: أشهد إنّك عزير، فأنطلقت إلى محلة بني إسرائيل وهم في أنديتهم ومجالسهم، وابن لعزير شيخ ابن مائة سنة وثمانية عشر سنة وبني بنيه شيوخ في المجلس فنادت: هذا عزير قد جاءكم، فكذّبوها.
فقالت: أنا فلانة مولاتكم دعا لي ربّه عزّ وجلّ فردّ عليّ بصري وأطلق رجلي وزعم إنّ الله تعالى كان أماته مائة سنة ثم بعثه.
قال: فنهض الناس فأقبلوا إليه، فقال ابنه: كانت لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه، فكشف عن كتفيه فإذا هو عزير.
قال [قتادة ومقاتل] والسدي والكلبي: هو أن عزيراً رجع إلى قريته وقد أحرق بخت نصّر التوراة ولم يكن من الله تعالى عهد بين الخلق فبكى عزير على التوراة، فأتاه مَلَك بأناء فيه ماء فسقاه من ذلك الإناء فمثلت التوراة في صدره، فرجع إلى بني إسرائيل، وقد علّمه الله التوراة وبعثه نبيّاً.
فقال: أنا عزير، ولم يصدّقون.
وقال: حدّثنا أبائنا إنّ عزيراً مات بأرض بابل.
فقال: أنا عزير بعثني الله إليكم لأجدد لكم توراتكم.
فقالوا: أملها علينا إن كنت صادقاً، فأملاها عليهم من ظهر قلبه.
وقال رجل منهم: حدّثني أبي عن جدّي أنّه دفن التوراة يوم سُبينا في خابية في كرم لأبي، فإنّ أريتموني كرم جدي أخرجتها لكم، فأروه، فأخرجها لهم، فعارضوها بما أملى عزير فما اختلفا في حرف، ولم يقرأ التوراة منذ أنزلت عن ظهر قلبه إلى هذا اليوم غير عزير.
فقالوا: ما جعل الله التوراة في قلب رجل بعدما نسخت وذهبت إلاّ أنّه ابنه، فعندها قالوا: عزير ابن الله، وسنذكر هذه القصّة بالاستقصاء في سورة التوبة إنّ شاء الله.
{ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ } ذلك عياناً { قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } قرأ ابن عباس وأبو رجاء وحمزة والكسائي: { قَالَ أَعْلَمُ } موصولاً مجزوماً على الأمر بمعنى قال الله له اعلم، يدلّ عليه قراءة عبد الله والأعمش: قل اعلم، وقرأ الباقون { قَالَ أَعْلَمُ } معطوفاً مرفوعاً على الخبر عن عزير أنّه قال لمّا رأى ذلك: { أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
عن المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب قال: ليس في الجنّة كلب ولا حمار إلاّ كلب أصحاب الكهف وحمار أرميا الذي أماته الله مائة عام.