التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ
٦٠
أُوْلَـٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ
٦١
وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِٱلْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
٦٢
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَـٰذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ
٦٣
حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِٱلْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ
٦٤
لاَ تَجْأَرُواْ ٱلْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ
٦٥
قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ
٦٦
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ
٦٧
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ ٱلْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ ٱلأَوَّلِينَ
٦٨
أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ
٦٩
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَآءَهُمْ بِٱلْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ
٧٠
وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ
٧١
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ
٧٢
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٧٣
وَإِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ عَنِ ٱلصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ
٧٤
-المؤمنون

الكشف والبيان

"{ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ ءَاتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } أهو الذي يزني ويشرب الخمر وهو على ذلك يخاف الله؟ قال: لا يا ابنة الصدّيق ولكن هو الذي يصوم ويصلي ويتصدق وهو على ذلك يخاف الله سبحانه" .
وأخبرنا عبد الله بن يوسف قال: حدَّثنا محمد بن حامد قال: حدَّثنا محمد بن الجهم قال: حدَّثنا عبد الله بن عمرو قال: أخبرنا وكيع عن ملك بن مغول عن عبد الرَّحْمن بن سعيد بن وهب "عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله { وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق قال: لا يا ابنة أبي بكر أو يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلّي ويتصدق ويخاف أن لا تقبل منه" .
{ أُوْلَـٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا } يعني إليها { سَابِقُونَ } كقوله (لما نُهوا عنه) و(لما قالوا) ونحوهما، وكان ابن عباس يقول في معنى هذه الآية: سبقت لهم من الله السعادة ولذلك سارعوا في الخيرات.
{ وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } يعني إلاّ ما يسعها ويصلح لها من العبادة والشريعة: { وَلَدَيْنَا كِتَابٌ } يعني اللوح المحفوظ { يَنطِقُ بِٱلْحَقِّ } يبيّن بالصدق ما عملوا وما هم عاملون من الخير والشر، وقيل: هو كتاب أعمال العباد الذي تكتبه الحفظة وهو أليق بظاهر الآية.
{ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } يعني يوفّون جزاء أعمالهم ولا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم.
ثمَّ ذكر الكفار فقال عزَّ من قائل { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ } عمى وغفلة { مِّنْ هَـٰذَا } القرآن { وَلَهُمْ أَعْمَالٌ } خبيثة لا يرضاها الله من المعاصي والخطايا { مِّن دُونِ ذٰلِكَ } يعني من دون أعمال المؤمنين التي ذكرها الله سبحانه، قيل: وهي قوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ }.
{ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } لابد لهم من أن يعملوها فيدخلوا بها النار لما سبق لهم من الشقاوة.
{ حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ } يعني اغنياءهم ورؤساءهم { بِٱلْعَذَابِ } قال ابن عباس: بالسيوف يوم بدر، وقال الضحّاك: يعني الجوع وذلك
"حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف، فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحرقة والقدّ والأولاد" .
{ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ } يضجّون ويجزعون ويستغيثون، وأصل الجؤار رفع الصوت بالتضرّع كما يفعل الثور، قال الشاعر:

فطافت ثلاثا بين يوم وليلةوكان النكير أن تضيف وتجأرا

يصف بقره. وقال أيضاً:

يراوح من صلوات المليكفطوراً سجوداً وطوراً جؤارا

{ لاَ تَجْأَرُواْ ٱلْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ } لا تمنعون ولا ينفعكم جزعكم وتضرّعكم.
{ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } يعني القرآن { فَكُنتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ } أدباركم { تَنكِصُونَ } تدبرون وتستأخرون وترجعون القهقرى، مكذّبين بها كارهين لها { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ } أي بالحرم تقولون: لا يظهر علينا أحد لأنّا أهل الحرم، وهو كناية عن غير مذكور { سَامِراً } نصب على الحال يعني أنّهم يسمرون بالليل في مجالسهم حول االبيت، ووحّد سامراً وهو بمعنى السمّار لأنّه وضع موضع الوقت، أراد: تهجرون ليلاً، كقول الشاعر:

من دونهم إنْ جئتهم سمراًعزف القيان ومجلس غمر

فقال: سمراً لأن معناه: إنْ جئتهم ليلاً وهم يسمرون، وقيل: واحد ومعناه الجمع كما قال { { ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } [غافر: 67] ونحوه.
{ تَهْجُرُونَ } قرأ نافع بضم التاء وكسر الجيم أي تفحشون وتقولون الخنا، يقال اهجر الرجل في كلامه أي أفحش، وذكر أنّهم كانوا يسبّون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقرأ الآخرون بفتح التاء وضم الجيم ولها وجهان:
أحدهما: تعرضون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن والإيمان وترفضونها.
والآخر: يقولون سوءاً وما لا يعلمون، من قولهم: هجر الرجل في منامه إذا هذى.
{ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ } يتدبّروا { ٱلْقَوْلَ } القرآن { أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ ٱلأَوَّلِينَ } فأنكروه وأعرضوا عنه، ويحتمل أن يكون أم بمعنى بل، يعني: بل جاءهم ما لم يأتِ آباءهم الأولين فكذلك أنكروه ولم يؤمنوا به، وروي هذا القول عن ابن عباس.
{ أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ } محمداً وأنّه من أهل الصدق والأُمانة. { فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ } جنون، كذبوا في ذلك فإن المجنون يهذي ويقول ما لا يعقل ولا معنى له، { بَلْ } محمد { جَآءَهُمْ بِٱلْحَقِّ } بالقول الذي لا يخفى صحته وحسنه على عاقل { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ } يعني الله سبحانه { أَهْوَآءَهُمْ } مرادهم فيما يفعل { لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ } ببيانهم وشرفهم يعني القرآن.
{ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ } على ما جئتهم به { خَرْجاً } أجراً وجعلاً وأصل الخرج والخراج الغلّة والضريبة والأتاوة كخراج العبد والأرض.
وقال النضر بن شميل: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الفرق بين الخرج والخراج فقال: الخراج ما لزمك ووجب عليك أداؤه، والخرج ما تبرّعت به من غير وجوب.
قال الله سبحانه: { فَخَرَاجُ رَبِّكَ } رزقه وثوابه { خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ * وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وهو الإسلام.
{ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ عَنِ ٱلصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ } عادلون، مائلون، ومنه الريح النكباء.