التفاسير

< >
عرض

قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ
١
ٱلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ
٢
وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنِ ٱللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ
٣
وَٱلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـاةِ فَاعِلُونَ
٤
وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ
٥
إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ
٦
فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ
٧
وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ
٨
وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ
٩
أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْوَارِثُونَ
١٠
ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
١١
-المؤمنون

الكشف والبيان

{ قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } قد حرف تأكيد، وقال المحققون: معنى قد تقريب بالماضي من الحال، فدلَّ على أنّ فلاحهم قد حصل وهم عليه في الحال، وهذا أبلغ في الصفة من تجريد ذكر الفلاح، والفلاح: النجاح والبقاء.
أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن المفسّر بقراءته عليَّ في سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة قال: أخبرنا أبو عمرو المعتزّ بن محمد بن الفضل القاضي قال: حدَّثنا أحمد بن الحسين الفريابي قال: حدَّثنا عبد الرحيم بن حبيب البغدادي عن إسحاق بن تجيح الملطي عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لمّا خلق الله سبحانه جنّة عدن خلق فيها ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر،ثمَّ قال لها: تكلّمي، قالت: قد أفلح المؤمنون - ثلاثاً - ثمَّ قالت: أنا حرام على كلّ بخيل ومرائي" .
وقرأطلحة بن مصرف: قد أُفلح المؤمنون على المجهول، أي أُبقوا في الثواب.
{ ٱلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ } اختلف المفسّرون في معنى الخشوع، فقال ابن عباس: مخبتون أذلاّء، الحسن وقتادة: خائفون.
مقاتل: متواضعون على الخشوع في القلب، وأن تلين للمرء المسلم كنفك ولا تلتفت.
مجاهد: هو غضّ البصر وخفض الجناح وكان الرجل من العلماء إذا قام إلى الصلاة هاب الرَّحْمن أن يمدّ بصره إلى شيء أو أن يحدّث نفسه بشيء من شأن الدنيا.
عمرو بن دينار: ليس الخشوع الركوع والسجود ولكنّه السكون وحسن الهيئة في الصلاة.
ابن سيرين وغيره: هو أن لا ترفع بصرك عن موضع سجودك.
قالوا: وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يرفعون أبصارهم في الصلاة إلى السماء وينظرون يميناً ويساراً حتى نزلت هذه الآية، فجعلوا بعد ذلك وجوههم حيث يسجدون، وما رؤي بعد ذلك أحد منهم ينظر ألاّ إلى الأرض.
ربيع: هو أن لا يلتفت يميناً ولا شمالاً.
أخبرنا أبو عمرو الفراتي قال: أخبرنا أبو موسى قال: حدَّثنا السراج قال: حدَّثنا محمد بن الصباح قال: أخبرنا إسحاق بن سليمان قال: حدَّثنا إبراهيم الخوزي عن عطاء بن أبي رباح قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"انَّ العبد إذا قام إلى الصلاة فإنّه بين عينيّ الرَّحْمن عزّ وجلّ فإذا التفت قال له الربّ: إلى من تلتفت؟ إلى من هو خير لك منّي؟ ابن آدم أقبل إليَّ فأنا خيرٌ ممّن تلتفت إليه" .
عطاء: هو أن لا تعبث بشيء من جسدك في الصلاة، وأبصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة فقال: "لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه" .
وأخبرنا محمد بن أحمد بن عقيل القطان قال: أخبرنا صاحب بن أحمد بن ترحم بن سفيان قال: حدَّثنا أبو عبد الرَّحْمن بن نبيت المروزي عبدان قال: حدَّثنا عبد الله بن المبارك عن معمّر أنه سمع الزهري يحدّث عن أبي الاحوص عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإنّ الرحمة تواجهه فلا يحرّكن الحصى" .
ويقال: نظر الحسن إلى رجل يعبث بالحصى ويقول: اللهم زوّجني من الحور العين، فقال: بئس الخاطب أنت تخطب وأنت تعبث.
خليد بن دعلج عن قتادة: هو وضع اليمين على الشمال في الصلاة.
بعضهم: هو جمع الهمّة لها وإلاعراض عمّا سواها.
أبو بكر الواسطي: هو الصلاة لله سبحانه على الخلوص من غير عوض.
سمعت ابن الإمام يقول: سمعت ابن مقسم يقول: سمعت أبا الفضل جعفر بن أحمد الصيدلي يقول: سمعت ابن أبي الورد يقول: يحتاج المصلي إلى أربع خلال حتى يكون خاشعاً: إعظام المقام، وإخلاص المقال، واليقين التمام، وجمع الهمّة.
{ وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنِ ٱللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ } قال الحسن: عن المعاصي، ابن عباس: الحلف الكاذب، مقاتل: الشتم والأذى، غيرهم: ما لا يحمل من القول والفعل، وقيل: اللغو الفعل الذي لا فائدة فيه.
{ وَٱلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـاةِ } الواجبة { فَاعِلُونَ } مؤدّون، وهي فصيحة وقد جاءت في كلام العرب قال أُميّة بن أبي الصلت:

المطعمون الطعام في السنةالأزمة والفاعلون للزكوات

{ وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ } أي من أزواجهم، على بمعنى من { أَوْ مَا } في محل الخفض يعني أو من ما { مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } على إتيان نسائهم وإمائهم.
{ فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذٰلِكَ } أي التمس وطلب سوى زوجته وملك يمينه { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ } من الحلال إلى الحرام، فمن زنى فهو عاد.
{ وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ } التي ائتمنوا عليها { وَعَهْدِهِمْ } وعقودهم التي عاقدوا الناس عليها { رَاعُونَ } حافظون وافون.
وقرأ ابن كثير: لأمانتهم على الواحد لقوله: «وعهدهم». الباقون: بالجمع لقوله
{ { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا } [النساء: 58].
{ وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } يداومون على فعلها ويراعون أوقاتها، فأمر بالمحافظة عليها كما أمر بالخشوع فيها لذلك كرّر ذكر الصلاة.
{ أُوْلَـٰئِكَ } أهل هذه الصفة { هُمُ ٱلْوَارِثُونَ } يوم القيامة منازل أهل الجنة من الجنة.
وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ما منكم من أحد إلاّ وله منزل في الجنة ومنزل في النار، فإن مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله، فذلك قوله تعالى { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْوَارِثُونَ }" .
وقال مجاهد: لكل واحد منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار، فأمّا المؤمن فيبنى منزله الذي له في الجنة، ويهدم منزله الذي هو في النار، وأما الكافر فيهدم منزله الذي في الجنة، ويبنى منزله الذي في النار.
وقال بعضهم: معنى الوراثة هو أنّه يؤول أمرهم إلى الجنة وينالونها كما يؤول أمر الميراث إلى الوارث.
{ ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ } أي البستان ذا الكرم، قال مجاهد: هي بالرومية، عكرمة: هي الجنة بلسان الحبش، السدّي: هي البساتين عليها الحيطان بلسان الروم.
وفي الحديث:
"إن حارثة بن سراقة قُتل يوم بدر فقالت أُمّه: يا رسول الله إن كان ابني من أهل الجنة لم أبك عليه، وإن كان من أهل النار بالغت في البكاء، فقال: يا أُمّ حارثة إنّها جنان وإنّ ابنك قد أصاب الفردوس الأعلى من الجنة" .
أخبرني أبو الحسن عبد الرَّحْمن بن إبراهيم بن محمد الطبراني بها قال: حدَّثنا أبو عبد الله محمد بن يونس بن إبراهيم بن النضر المقري قال: حدَّثنا العباس بن الفضل المقري قال: حدَّثنا أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم قال: حدَّثنا يحيى بن عبد الله بن بكير المخزومي قال: حدّثني عبد الله بن لهيعة الحضرمي قال: حدَّثنا عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قول الله سبحانه { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } يعني قد سعد المصدّقون بتوحيد الله سبحانه، ثم نعتهم ووصف أعمالهم فقال عزَّ من قائل { ٱلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ } يعني متواضعين لا يعرف من على يمينه ولا من على يساره، ولا يلتفت من الخشوع لله { وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنِ ٱللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ } يعني الباطل والكذب { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـاةِ فَاعِلُونَ } يعني الأموال كقوله سبحانه في الأعلى { { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ } [الأعلى: 14] يعني من ماله { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } يعني عن الفواحش، ثم قال { إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } يعني ولائدهم { فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } لا يُلامون على جماع أزواجهم وولائدهم { فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذٰلِكَ } فمن طلب الفواحش بعد الأزواج والولائد ما لم يحلّ { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ } يعني المعتدين في دينهم { وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ } يعني ما ائتمنوا عليه فيما بينهم وبين الناس { وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } يعني حافظين يؤدّون الأمانة ويوفون بالعهود { وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } يعني يحافظون عليها في مواقيتها، ثمَّ أخبر بثوابهم فقال { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْوَارِثُونَ } ثمَّ بين مايرثون فقال { ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ } يعني الجنة بلسان الرومية { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } لا يموتون فيها.
أخبرنا محمد بن عقيل القطان قال: أخبرنا حاجب بن أحمد بن سفيان قال: حدَّثنا محمد بن حماد البيوردي قال: حدَّثنا عبد الرزاق قال: أخبرني يونس بن سليم قال أملى علىّ صاحب ايلة عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرَّحْمن بن عبد القاري قال:
"سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي يُسمع عند وجهه كدوىّ النحل، فمكثنا ساعة فاستقبل ورفع يديه فقال: اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تُهنّا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، ارض عنّا، ثمَّ قال: لقد أُنزل علينا عشر آيات من أقامهن دخل الجنّة، ثمَّ قرأ { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } عشر آيات" .