التفاسير

< >
عرض

وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ يَخْلُقُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٤٥
لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَٱللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٤٦
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ
٤٧
وَإِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ
٤٨
وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ ٱلْحَقُّ يَأْتُوۤاْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ
٤٩
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ٱرْتَابُوۤاْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ
٥٠
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
٥١
وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ ٱللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَآئِزُون
٥٢
وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
٥٣
قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ
٥٤
وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ
٥٥
-النور

الكشف والبيان

{ وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ } خالق على الاسم كوفي غير عاصم،الباقون: خَلَق كلّ دابّة على الفعل { مِّن مَّآءٍ } أي من نطفة، وقيل: إنما قال { مِّن مَّآءٍ } لأنَّ أصل الخلق من الماء، ثم قلب بعض الماء الى الريح فخلق منها الملائكة، وبعضه إلى النار فخلق منه الجن، وبعضه إلى الطين فخلق منه آدم.
{ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ } كالحيّات والحيتان { وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ } كالطير { وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ } قوائم كالأنعام والوحوش والسباع ولم يذكر ما يمشي على أكثر من أربع لأنّه كالذي يمشي على أربع في رأي العين.
{ يَخْلُقُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ } كما يشاء { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَٱللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَيَِقُولُونَ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلرَّسُولِ وَأَطَعْنَا } يعني المنافقين { ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ } ويدعو الى غير حكم الله.
قال الله سبحانه وتعالى { وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ } نزلت هذه الآيات في بشر المنافق وخصمه اليهودي حين اختصما في أرض فجعل اليهودي يجرّه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهما، وجعل المنافق يجرّه الى كعب بن الأشرف ويقول: إنّ محمّداً يحيف علينا، فذلك قوله { وَإِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } الرسول بحكم الله { إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ ٱلْحَقُّ يَأْتُوۤاْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ } مطيعين منقادين لحكمه { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ٱرْتَابُوۤاْ } يعني أنّهم كذلك فجاء بلفظ التوبيخ ليكون أبلغ في الذمّ، كقول جرير في المدح:

ألستم خير من ركب المطاياوأندى العالمين بطون راح

يعني أنتم كذلك.
{ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ } أي يظلم { بَلْ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } لأنفسهم بإعراضهم عن الحق والواضعون المحاكمة في غير موضعها.
{ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ } أي الى كتاب الله { وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } نصب القول على خبر كان واسمه في قوله { أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ * وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ ٱللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَآئِزُون * وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ } وذلك أنّ المنافقين كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أينما كنت نكن معك، إن أقمت أقمنا وإن خرجت خرجنا وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا، فقال الله سبحانه { قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ } أي هذه طاعة بالقول واللسان دون الاعتقاد فهي معروفة منكم بالكذب أنكم تكذبون فيها، وهذا معنى قول مجاهد، وقيل: معناه طاعة معروفة أمثل وأفضل من هذا القسم الذي تحنثون فيه.
{ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } من طاعتكم ومخالفتكم.
{ قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ } عن طاعة الله ورسوله والاذعان بحكمهما { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ } أي على الرسول { مَا حُمِّلَ } كُلّف وأُمر به من تبليغ الرسالة { وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ } من طاعته ومتابعته { وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ }.
سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن عقيل الورّاق في آخرين قالوا: سمعنا أبا عمرو إسماعيل بن نجيد السلمي يقول: سمعت أبا عثمان سعيد بن إسماعيل الحيري يقول: من أمّر السنّة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمرّ الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة لقول الله سبحانه { وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ }.
{ وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ * وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ } إنما أدخل اللام بجواب اليمين المضمر لأنّ الوعد قول، مجازها وقال الله سبحانه { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } والله ليستخلفنّهم في الأرض أي ليورثنّهم أرض الكفّار من العرب والعجم، فيجعلهم ملوكها وسائسيها وسكّانها.
{ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } يعني بني إسرائيل إذ أهلك الجبابرة بمصر والشام وأورثهم أرضهم وديارهم، وقرأه العامة: كما استخلف بفتح التاء واللام لقوله سبحانه { وَعَدَ ٱللَّهُ } وقوله { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ }.
وروى أبو بكر عن عاصم بضم التاء وكسر اللام على مذهب ما لم يَسمَّ فاعله.
{ وَلَيُمَكِّنَنَّ } وليوطّننّ { لَهُمْ دِينَهُمُ } ملّتهم التي ارتضاها لهم وأمرهم بها { وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ } قرأ ابن كثير وعاصم ويعقوب بالتخفيف وهو اختيار أبي حاتم، غيرهم: بالتشديد وهما لغتان. وقال بعض الأَئمة: التبديل: تغيير حال الى حال، والإبدال: رفع شيء وجعل غيره مكانه { مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ } بهذه النعمة { بَعْدَ ذٰلِكَ } وآثر يعني الكفر بالله { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ }.
روى الربيع عن أبي العالية في هذه الآية قال:
"مكث النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين خائفاً يدعو الى الله سراً وعلانية ثم أُمر بالهجرة الى المدينة، فمكث بها هو أصحابه خائفين يصبحون في السلاح ويمسون فيه، فقال رجل: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنّا السلاح فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تغبرّون إلاّ يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليس فيه حديده." وأنزل الله سبحانه هذه الآية فأنجز الله وعده وأظهره على جزيرة العرب، فآمنوا ثم تجبّروا وكفروا بهذه النعمة وقتلوا عثمان بن عفان، فغيّر الله سبحانه ما بهم وأدخل الخوف الذي كان رفعه عنهم.
وقال مقاتل: لمّا رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبيّة حزن أصحابه فأطعمهم اللّه نخل خيبر، ووعدهم أن يدخلوا العام المقبل مكة آمنين، وأنزل هذه الآية.
قلت: وفيها دلالة واضحة على صحّة خلافة أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه وإمامة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم.
روى سعيد بن جهمان عن سفينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الخلافة من بعدي ثلاثون ثم يكون مُلكاً" .
قال سفينة: أمسك خلافة أبي بكر سنتين، وعمر عشراً، وعثمان ثنتي عشرة، وعليّ ستة.
وأخبرنا أبو عبد الله عبد الرَّحْمن بن إبراهيم بن محمد الطبراني بها قال: أخبرنا شافع بن محمد قال: حدّثنا ابن الوشّاء قال: حدّثنا ابن إسماعيل البغدادي قال: حدّثنا محمد بن الصباح قال: حدّثنا هشيم بن بشير عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الخلافة بعدي في أُمّتي في أربع: أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ" .