قوله: { وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى ٱللَّهِ } أي يخلص دينه لله ويفوّض أمره إليه، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي (يُسلِّمْ) بالتشديد، وقراءة العامّة بالتخفيف من الإسلام وهو الاختيار لقوله: { { بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ } [البقرة: 112] وأشباه ذلك.
{ وَهُوَ مُحْسِنٌ } في عمله { فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ } أي: اعتصم بالطريق الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه. وقال ابن عبّاس: هي: { { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ } [الصافات: 35].
{ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ عَاقِبَةُ ٱلأَمُورِ } يعني مرجعها. { وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ } نعمّرهم ونمهلهم { قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ } نُلجئهم، ونردّهم { إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٍ }.
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ }.
قوله عزّ وجلّ: { وَلَوْ أَنَّمَا فِي ٱلأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ } الآية. قال المفسِّرون: سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرّوح فأنزل الله بمكّة: { { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ } [الإسراء: 85] الآية، "فلمّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار اليهود، فقالوا: يا محمّد بلغنا عنك أنّك تقول: وما أُوتيتم من العلم إلاّ قليلاً، أفعنيتنا أم قومك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: كلاًّ قد عنيت. قالوا: ألستَ تتلوا فيما جاءَك: إنّا قد أُوتينا التّوراة وفيها علم كلّ شيء؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي في علم الله قليلٌ وقد آتاكم الله ما إنْ عملتم به انتفعتم. قالوا: يا محمّد كيف تزعم هذا وأنت تقول: { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } فكيف يجتمع هذا قليل وخير كثير؟ فأنزلَ الله: { وَلَوْ أَنَّمَا فِي ٱلأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ }" أي بريت أقلاماً { وَٱلْبَحْرُ } بالنصب ابن أبي إسحاق وأبو عمرو ويعقوب. غيرهم بالرّفع، وحجّتهم: قراءة عبدالله وبحر { يَمُدُّهُ } أي يزيده وينصب عليه { مِن بَعْدِهِ } من خلفه { سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ ٱللَّهِ } وفي هذه الآية اختصار تقديرها: ولو أنَّ ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدُّهُ من بعده سبعة أبحر يكتب بها كلام الله ما نفدت كلمات الله، وهذه الآية تقتضي أنّ كلامه غير مخلوق؛ لأنّه لا نهاية له ولما يتعلّق به من معناه فهو غير مخلوق.
{ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } هذه الآية على قول عطاء بن يسار: مدنيّة، قال: نزلت بعد الهجرة كما حكينا. وعلى قول غيره: مكّيّة، قالوا: إنّما أمرَ اليهود وفد قريش أنْ يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ويقولوا له ذلك وهو بعد بمكّة، والله أعلم.
قوله: { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } يعني إلاّ كخلق نفس واحدة وبعثها لا يتعذر عليه شيء وهذا كقوله: { { تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَٱلَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ } [الأحزاب: 19] أي كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت.
{ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِيۤ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * ذَلِك } الذي ذكرتُ لتعلموا: { بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلْبَاطِلُ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْكَبِيرُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱلْفُلْكَ تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِنِعْمَةِ ٱللَّهِ } برحمة الله، { لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ } على أمر الله { شَكُورٍ } على نِعَمِهِ. قال أهل المعاني: أراد لكلّ مؤمن، لأنّ الصّبر والشكر من أفضل خصال المؤمنين.
{ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَٱلظُّلَلِ } قال مقاتل: كالجبال. وقال الكلبي: كالسحاب (وٱلظُّلَلِ) جمع ظلّه شَبَّهَ الموجَ بها في كثرتها وارتفاعها كقول النّابغة في صفة بحر:
يماشيهن أخضر ذو ظلالعلى حافاته فلق الدنان
.
وإنّما شبّه الموج وهو واحد بالظلل وهي جمع، لاِنَّ الموج يأتي شيء بعد شيء ويركب بعضه بعضاً كالظلل. وقيل: هو بمعنى الجمع، وإنّما لم يجمع لأنّه مصدر، وأصله من الحركة والازدحام.
{ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } قال ابن عبّاس: موف بما عاهد الله عليه في البحر. ابن كيسان: مؤمن. مجاهد: مقتصد في القول مضمر للكفر. الكلبي: مقتصد في القول من الكفّار لأنَّ بعضهم أشدّ قولاً وأغلى في الافتراء من بعض. ابن زيد: المقتصد الذي على صلاح من الأمر. { وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ } غدّار { كَفُورٍ } جحود، والختر أسوأ الغدر. وقال عمرو بن معدي كرب:
وإنّك لو رأيت أبا عميرملأت يديك من غدر وختر
قوله: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ وَٱخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِي } لا يقضي ولا يُغني ولا يكفّر { وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ }. قراءة العامّة: بفتح الغين هاهنا وفي سورة الملائكة والحديد وقالوا: هو الشيطان. وقال سعيد بن جبير: هو أن يعمل بالمعصية ويتمنّى المغفرة. وقرأ سماك بن حرب: بضم الغين ومعناه لا تغتروا { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } الآية. نزلت في الوارث بن عمرو بن حارثة بن محارب بن خصفة من أهل البادية، أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فسأله عن الساعة ووقتها وقال: إنّ أرضنا أجدبت فمتى ينزل الغيث؟ وتركتُ امرأتي حبلى فما تلد؟ وقد علمتُ أين وُلدتْ فبأيّ أرض تموت؟ فأنزل الله هذه الآية.
أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبدالله بن حمدون، عن أحمد بن محمد بن الحسن، عن محمد بن يحيى، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبي عن ابن شهاب، عن سالم بن عبدالله ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "مفاتيحُ الغيب خمسة { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } الآية" .
وروى يونس بن عبيد عن عمرو بن سعيد أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله هل من العلم علم لم تؤته؟ فقال: لقد أُوتيتُ علماً كثيراً أو علماً حسناً (أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ تلا رسول الله هذه الآية { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } إلى قوله: { خَبِيرٌ } فقال: هؤلاء خمسة لا يعلمهنّ إلاّ الله تبارك وتعالى.
وأخبرنا أبو زكريا يحيى بن إسماعيل الحربي قال: أخبرني أبو حامد أحمد بن حمدون بن عمارة الأعمش، عن علي بن حشرم، عن الفضل بن موسى، عن رجل سمّاه قال: بلغ ابن عبّاس أنَّ يهودياً خرج من المدينة يحسب حساب النجوم فأتاه فسأله. فقال: إنْ شئت أنبأتك عن نفسك وعن ولدك. فقال: إنّك ترجع إلى منزلك وتلقى لك بابن محموم، ولا تمكث عشرة أيّام حتّى يموت الصبي، وأنت لا تخرج من الدُّنيا حتى تعمى، فقال ابن عبّاس: وأنت يا يهودي؟ قال: لا يحول عليَّ الحول حتى أموت، قال: فأين موتك؟ قال: لا أدري. قال ابن عبّاس: صدق الله { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ }. قال: فرجع ابن عبّاس فتلقّى بابن محموم فما بلغَ عشراً حتّى مات الصبي، وسأل عن اليهودي قبل الحول فقالوا: مات، وما خرجَ ابن عبّاس من الدنيا حتّى ذهب بصره. قال علي: هذا أعجب حديث.
قوله: { بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } كان حقه بأيّة أرض، وبه قرأ أُبيّ بن كعب، إلاّ أنّ مَن ذَكَّر قال: لاِنّ الأرض ليس فيها من علامات التأنيث شيء. وقيل: أراد بالأرض المكان فلذلك ذَكَّر، وأحتجُ بقول الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقهاولا الأرض ابقل ابقالها