التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ ٱللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ٱللَّهَ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً
٣٩
مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً
٤٠
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً
٤١
وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً
٤٢
هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً
٤٣
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً
٤٤
يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً
٤٥
وَدَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً
٤٦
وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً
٤٧
وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّـلْ عَلَى ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِـيلاً
٤٨
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً
٤٩
يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ٱللاَّتِيۤ آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ ٱللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَٱمْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِيۤ أَزْوَاجِهِـمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
٥٠
تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِيۤ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ٱبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَىٰ أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً
٥١
لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً
٥٢
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَـكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَٱدْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَٱللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ ٱلْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَٱسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذٰلِكُمْ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيماً
٥٣
إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً
٥٤
لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِيۤ آبَآئِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآئِهِنَّ وَلاَ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلاَ نِسَآئِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَٱتَّقِينَ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً
٥٥
-الأحزاب

الكشف والبيان

قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ ٱللَّهِ } محلّ الذين خفض على النعت على الذين خلوا { وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ٱللَّهَ } لا يخشون قالة الناس ولائمتهم فيما أحلّ الله لهم وفرض عليهم { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً } حافظاً لأعمال خلقه ومحاسبتهم عليها، ثمّ نزلت في قول الناس إنّ محمّداً تزوّج امرأة ابنه { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } الذين لم يلده فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إيّاها، يعني زيداً، وإنّما كان أبا القاسم والطيب والمطهر وإبراهيم.
{ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ } أي آخرهم ختم الله به النبوّة فلا نبيّ بعده، ولو كان لمحمّد ابن لكان نبيّاً.
أخبرنا عبدالله بن حامد الوزان عن مكي بن عبدان، عن عبدالرحمن عن سفيان، عن الزهري، عن محمد بن جبير، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" "أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبيّ" .
واختلف القرّاء في قوله { خَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ } فقرأ الحسن وعاصم بفتح التاء على الاسم، أي آخر النَّبِين. كقوله: خاتمه مسك، أي آخره. وقرأ الآخرون بكسر التاء على الفاعل، أي أنّه خاتم النبيّين بالنبوّة.
{ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً * يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً }
قال ابن عبّاس: لم يفرض الله تعالى على عباده فريضة إلاّ جعل لها حدّاً معلوماً، ثمّ عذر أهلها في حال العذر، غير الذكر، فإنّه لم يجعل له حدّاً يُنتهى إليه، ولم يعذر أحداً في تركه إلاّ مغلوباً على عقله، وأمرهم بذكره في الأحوال كلّها فقال:
{ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ } [النساء: 103] وقال: { ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً } بالليل والنهار وفي البر والبحر والسفر والحضر والغنى والفقر والصحّة والسقم والسرّ والجهر وعلى كلّ حال. وقال مجاهد: الذكر الكثير أنْ لا تنساه أبداً.
أخبرني ابن فنجويه عن ابن شبّه عن الفراتي، عن عمرو بن عثمان، عن أَبي، عن أبي لهيعة، عن دُراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" "أكثروا ذكر الله حتّى يقولوا مجنون" " { وَسَبِّحُوهُ } وصلّوا له { بُكْرَةً } يعني صلاة الصبح { وَأَصِيلاً } يعني صلاة العصر عن قتادة.
وقال ابن عبّاس: يعني صلاة العصر والعشاءين. وقال مجاهد: يعني قولوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله، فعبّر بالتسبيح عن أخواته، فهذه كلمات يقولها الطاهر والجنب والمحدث.
قوله: { هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ } بالرحمة. قال السدي: قالت بنو إسرائيل لموسى: أيصلّي ربُّنا؟ فكبر هذا الكلام على موسى فأوحى الله إليه أنْ قُل لهم: إنّي أُصلّي، وإنّ صلاتي رحمتي، وقد وسعت رحمتي كلّ شيء.
وقيل: (يصلّي) يشيع لكم الذكر الجميل في عباده. وقال الأخفش: يبارك عليكم { وَمَلاَئِكَتُهُ } بالاستغفار والدعاء { لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً }.
قال أنس بن مالك: لمّا نزلت { إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ } [الأحزاب: 56] الآية، قال أبو بكر: ما خصّك الله بشرف إلاّ وقد أشركتنا فيه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
{ تَحِيَّتُهُمْ } أي تحية المؤمنين { يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ } أي يرون الله عزّ وجلّ { سَلاَمٌ } أي يسلّم عليهم ويسلّمهم من جميع الآفات والبليّات.
أخبرني ابن فنجويه، عن ابن حيان، عن ابن مروان عن أبي، عن إبراهيم بن عيسى، عن علي بن علي، حدّثني أبو حمزة الثمالي في قوله عزّ وجلّ: { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ } قال: تسلّم عليهم الملائكة يوم القيامة وتبشِّرهم حين يخرجون من قبورهم. وقيل: هو عند الموت والكناية مردودة إلى مَلك الموت كناية عن غير مذكور.
أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين، عن عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك، عن إسحاق بن محمد بن الفضل الزيّات، عن محمد بن سعيد بن غالب، عن حمّاد بن خالد الخيّاط، عن عبد الله بن وافد أبو رجاء، عن محمد بن مالك، عن البراء بن عازب في قوله عزّ وجلّ: { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ } قال: يوم يلقون ملك الموت لا يقبض روح مؤمن إلاّ سلّمَ عليه.
وأخبرني الحسين بن محمد عن ابن حبيش المقرئ، حدّثني عبد الملك بن أحمد بن إدريس القطان بالرقة، عن عمر بن مدرك القاص قال: أخبرني أبو الأخرص محمد بن حيان البغوي، عن حمّاد بن خالد الخيّاط، عن خلف بن خليفة، عن أبي هاشم، عن أبي الأخوص، عن ابن مسعود قال: إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال: ربّك يُقرئك السلام.
{ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً } وهو الجنّة.
قوله: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً } يستضيء به أهل الدين. قال جابر بن عبدالله: لمّا نزلت { إِنَّا فَتَحْنَا } الآيات، قال الصحابة: هنيئاً لك يا رسول الله هذه العارفة، فما لنا؟ فأنزل الله تعالى: { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً * وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ } اصبر عليهم ولا تكافئهم. نسختها آية القتال { وَتَوَكَّـلْ عَلَى ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِـيلاً }.
قوله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } تجامعوهن { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } تحصونها عليهن بالأقراء والأشهر { فَمَتِّعُوهُنَّ } أي أعطوهن ما يستمتعن به. قال ابن عبّاس: هذا إذا لم يكن سمّى لها صداقاً، فإذا فرض لها صداقاً فلها نصفه، وقال قتادة: هذه الآية منسوخة بقوله:
{ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [البقرة: 237] وقيل: هو أمر ندب، فالمتعة مستحبّة ونصف المهر واجب { وَسَرِّحُوهُنَّ } وخلّوا سبيلهن { سَرَاحاً جَمِيلاً } بالمعروف، وفي الآية دليل على أنّ الطلاق قبل النكاح غير واقع خصَّ أو عمَّ خلافاً لأهل الكوفة.
أخبرني الحسين بن محمّد بن فنجويه، عن ابن شنبه، عن عبد الله بن أحمد بن منصور الكسائي، عن عبد السلام بن عاصم الرازي، قال: أخبرني أبو زهير، عن الأحلج، عن حبيب بن أبي ثابت قال: كنت قاعداً عند علي بن الحسين، فجاءه رجل فقال: إنّي قلت: يوم أتزوّج فلانة بنت فلان فهي طالق. قال: اذهب تزوّجها، فإنّ الله عزّ وجلّ بدأ بالنكاح قبل الطلاق، وقال: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } ولم يقل إذا طلقتموهن ثمّ نكحتموهن ولم يرهُ شيئاً. والدليل عليه ما أخبرنا الحسين بن محمّد بن الحسين، عن عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي قال: أخبرني أبو بكر محمد بن إبراهيم المنذر النيسابوري بمكّة، عن الربيع بن سليمان، عن أيّوب بن سويد، عن ابن أبي ذيب عن عطاء، عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا طلاق قبل نكاح" .
قوله: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ٱللاَّتِيۤ آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } مهورهن { وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ } مثل صفية وجويرية ومارية { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ } من نساء عبد المطلب { وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ } من نساء بني زهرة { ٱللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } فمن لم تهاجر منهنّ فليس له نكاحها. وقرأ ابن مسعود: { وٱللاَّتِي هَاجَرْنَ }، بواو.
أنبأني عقيل بن محمد عن المعافى بن زكريا عن محمد بن جرير قال: أخبرني أبو كريب، عن عبد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي صالح، عن أُمّ هاني قالت: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني ثمّ أنزل الله عزّ وجلّ: { إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ }... إلى قوله: { ٱللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } قالت: فلم أحلّ له لأني لم أُهاجر، معه كنتُ من الطلقاء.
{ وَٱمْرَأَةً مُّؤْمِنَةً } أي وأحللنا لك امرأة مؤمنة { إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } بغير مهر. وقرأ العامة إِن بكسر الألف على الجزاء والاستقبال، وقرأ الحسن بفتح الألف على المضي والوجوب، { إِنْ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا } فله ذلك { خَالِصَةً } خاصّةً لك، { مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } فليس لامرأة أنْ تهب نفسها لرجل بغير شهود ولا وليّ ولا مهر إلاّ النبيّ(عليه السلام)، وهذا من خصائصه في النكاح، كالتخيير والعدد في النساء، وما روي انّه أعتق صفيّة وجعل عتقها صداقها ولو تزوّجها بلفظ الهبة لم ينعقد النكاح، هذا قول سعيد بن المسيب والزهري ومجاهد وعطاء ومالك والشافعي وربيعة وأبي عبيد وأكثر الفقهاء.
وقال النخعي وأهل الكوفة: إذا وهبت نفسها منه وقبلها بشهود ومهر فإنَّ النكاح ينعقد والمهر يُلزَم به، فأجازوا النكاح بلفظ الهبة. وقالوا: كان اختصاص النبي (عليه السلام) في ترك المهر. والدليل على ما ذهب الشافعي إليه: إنّ الله تعالى سمّى النكاح باسمين التزويج والنكاح، فلا ينعقد بغيرهما.
واختلف العلماء في التي وهبت نفسها لرسول الله، وهل كانت امرأة عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم كذلك؟ فقال ابن عبّاس ومجاهد: لم يكن عند النبي صلّى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها منه، ولم يكن عنده(عليه السلام) امرأة إلاّ بعقد النكاح أو ملك اليمين، وإنّما قال الله تعالى { إِن وَهَبَتْ } على طريق الشرط والجزاء.
وقال الآخرون: بل كانت عنده موهوبة، واختلفوا فيها. فقال قتادة: هي ميمونة بنت الحرث. قال الشعبي: زينب بنت خزيمة أُمّ المساكين امرأة من الأنصار. قال علي بن الحسين والضحّاك ومقاتل: أُمّ شريك بنت جابر من بني أسد. قال عروة بن الزبير: خولة بنت حكيم بن الأوقص من بني سليم.
{ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ } يعني أوجبنا على المؤمنين { فِيۤ أَزْوَاجِهِـمْ } قال مجاهد: يعني أربعاً لا يتجاوزونها.
قتادة: هو أنْ لا نكاح إلاّ بوليّ وشاهدين { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } يعني الولائد والإماء { لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } في نكاحهن { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }.
قوله: { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ } أي تؤخّر { وَتُؤْوِيۤ } وتضمّ { إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ } واختلف المفسِّرون في معنى الآية، فقال أبو رزين وابن زيد: نزلت هذه الآية حين غارت بعض أُمّهات المؤمنين على النبيّ صلى الله عليه وسلم وطلب بعضهنّ زيادة النفقة، فهجرهنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم شهراً حتى نزلت آية التخيير، وأمره الله عزّ وجلّ أنْ يخيّرهنّ بين الدنيا والآخرة، وأن يخلّي سبيلَ مَنْ اختارت الدُّنيا، ويمسك من اختارت الله ورسوله على أَنّهنّ أُمّهات المؤمنين ولا يُنكحن أبداً، وعلى أنّه يُؤوي إليه من يشاء ويرجي مِنهنّ من يشاء فيرضين به، قسم لهنّ أو لم يقسم، أو قسم لبعضهنّ ولم يقسم لبعضهنّ، أو فضّل بعضهنّ على بعض في النفقة والقسمة والعشرة أو ساوى بينهنّ، ويكون الأمر في ذلك كلّه إليه، يفعل ما يشاء، وهذا من خصائصه (عليه السلام). فرضين بذلك كلّه واخترنه على هذا الشرط، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع ما جعل الله له من ذلك ساوى بينهنّ في القسم إلاّ امرأة منهنّ أراد طلاقها فرضيت بترك القسمة لها وجعل يومها لعائشة وهي سودة بنت زمعة.
وروى منصور عن أبي رزين قال: لمّا نزلت آية التخيير أشفقن أنْ يطلَّقن فقلن: يا نبيّ الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت، ودعنا على حالنا، فنزلت هذه الآية، فكان ممّن أُرجي منهن سودة وجويرية وصفيّة وميمونة وأُمّ حبيبة، فكان يقسم لهنّ ما شاء كما شاء، وكانت ممّن آوى إليه عائشة وحفصة وأُمّ سلمة وزينب رحمة الله عليهنّ، كان يقسم بينهن سواء لا يفضِّل بعضهنّ على بعض، فأرجأ خمساً وآوى أربعاً.
وقال مجاهد: يعني تعزل مَنْ تشاء منهنّ بغير طلاق، وترد إليك من تشاء منهنّ بعد عزلك إيّاها بلا تجديد مهر وعقد.
وقال ابن عبّاس: تطلّق من تشاء منهنّ وتمسك من تشاء.
وقال الحسن: تترك نكاح من شئت وتنكح من شئت من نساء امّتك. قال: وكان النبي (عليه السلام) إذا خطب امرأة لم يكن لرجل أنْ يخطبها حتى يتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يتركها.
وقيل: وتقبل من تشاء من المؤمنات اللاّتي يهبن أنفسهن لك، فتؤويها إليك، وتترك من تشاء فلا تقبلها.
روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنّها كانت تعيّر النساء اللاّتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلّى الله عليه وقالت: أما تستحي امرأة أن تهب أو تعرض نفسها على رجل بغير صداق، فنزلت هذه الآية، قالت عائشة: فقلت لرسول الله إنَّ ربَّك ليسارع لك في هواك.
{ وَمَنِ ٱبْتَغَيْتَ } أي طلبت وأردت إصابته { مِمَّنْ عَزَلْتَ } فأصبتها وجامعتها بعد العزل { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } فأباح الله تعالى له بذلك ترك القسم لهنّ حتّى إنَّه ليؤخّر من شاء منهنّ في وقت نوبتها، فلا يطأها ويطأ من شاء منهنّ في غير نوبتها، فله أن يردَّ إلى فراشه من عزلها، فلا حرج عليه فيما فعل تفضيلاً له على سائر الرّجال وتخفيفاً عنه. وقال ابن عبّاس: يقول: إنَّ مَن فات من نسائك اللاّتي عندك أجراً وخلّيت سبيلها، فقد أحللت لك، فلا يصلح لك أنْ تزداد على عدد نسائك اللاّتي عندك.
{ ذَلِكَ } الذي ذكرت { أَدْنَىٰ أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ } أطيب لأنفسهنّ وأقلّ لحزنهنّ إذا علمن أنَّ ذلك من الله وبأمره، وأنَّ الرخصة جاءت من قِبَله { وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ } من التفضيل والايثار والتسوية { كُلُّهُنَّ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ } من أمر النساء والميل إلى بعضهنّ { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً }.
قوله تعالى: { لاَّ يَحِلُّ لَكَ } بالتاء أهل البصرة، وغيرهم بالياء { ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ } أي من بعد هؤلاء النساء التسع اللاّتي خيّرتهنّ فاخترنك لما اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، قصره عليهنّ، وهذا قول ابن عبّاس وقتادة. وقال عكرمة والضحاك: لا يحلّ لك من النساء إلاّ اللاّتي أحللناها لك وهو قوله: { إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } ثمّ قال: { لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ } التي أحللنا لك بالصفة التي تقدّم ذكرها.
روى داود بن أبي هند عن محمّد بن أبي موسى عن زياد رجل من الأنصار قال: قلت لأُبيّ بن كعب: أرأيت لو مات نساء النبي صلّى الله عليه وسلم أكان يحلّ له أنْ يتزوّج؟ فقال: وما يمنعه من ذلك وما يُحرّم ذلك عليه؟ قلت: قوله: { لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ } فقال: إنّما أحلّ الله له ضرباً من النساء فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ... } ثمّ قال: { لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ }.
وقال أبو صالح: أُمر أنْ لا يتزوّج أعرابية ولا عربية ويتزوّج بعد من نساء قومه من بنات العمّ والعمّة والخال والخالة إنْ شاء ثلاثمائة. وقال سعيد بن جبير ومجاهد: معناه لا يحلّ لك النساء من غير المسلمات فأمّا اليهوديّات والنصرانيّات والمشركات فحرامٌ عليك، ولا ينبغي أنْ يكنَّ من أُمّهات المؤمنين.
وقال أبو رزين: { لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ } يعني الإماء بالنكاح. { وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } قال مجاهد وأبو رزين: يعني ولا أنْ تبدّل بالمسلمات غيرهنّ من اليهود والنصارى والمشركين { وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } من السبايا والإماء الكوافر.
وقال الضحّاك: يعني ولا تبدّل بأزواجك اللاّتي هنّ في حبالك أزواجاً غيرهنّ، بأن تطلّقهنّ وتنكح غيرهن، فحرّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم طلاق النساء اللّواتي كنّ عنده، إذ جعلهنّ أُمّهات المؤمنين، وحرّمهن على غيره حين اخترنه، فأمّا نكاح غيرهنّ فلم يُمنع منه، بل أُحلّ له ذلك إنْ شاء. يدلّ عليه ما أخبرناه عبدالله بن حامد الوزان، عن أحمد بن محمد بن الحسين، عن محمّد بن يحيى قال: أخبرني أبو عاصم عن جريح عن عطاء عن عائشة قالت: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلَّ له النساء.
وقال ابن زيد: كانت العرب في الجاهلية يتبادلون بأزواجهم يعطي هذا امرأته هذا ويأخذ امرأة ذاك فقال الله: { وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } يعني تُبادل بأزواجك غيرك أزواجه، بأنْ تعطيه زوجتك وتأخذ زوجته إلاّ ما ملكت يمينك لا بأس أن تبادل بجاريتك ما شئت فأمّا الحرائر فلا.
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد الاصفهاني، عن أحمد بن محمد بن يحيى العبيدي، عن أحمد بن نجدة، عن الحماني، عن عبد السلام بن حرب، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال: كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل: بادلني امرأتك وأُبادلك بامرأتي، تنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي، فأنزل الله عزّ وجلّ: { وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } قال: فدخل عيينة بن حصين على النبي صلّى الله عليه وعنده عائشة فدخل بغير إذن، فقال له النّبيّ صلّى الله عليه:
"يا عيينة فأين الاستئذان؟ قال: يا رسول الله ما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت، ثمّ قال: مَنْ هذه الحميراء إلى جنبك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه عائشة أُمّ المؤمنين. قال عيينة: أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق، قال رسول الله صلّى الله عليه: إنَّ الله عزّ وجلّ قد حرّم ذلك، فلمّا خرج، قالت عائشة: مَنْ هذا يا رسول الله؟ قال: هذا أحمق مطاع وإنّهُ على ما ترين لسيّد قومه" .
قال ابن عبّاس في قوله: { وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } يعني أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب، وفيه دليل على جواز النظر إلى من يريد أن يتزوّج بها، قد جاءت الأخبار بإجازة ذلك.
أخبرنا عبدالله بن حامد، عن محمد بن جعفر المطيري، عن عبد الرحمن بن محمد بن منصور، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان عن عاصم الأحول، عن بكير بن عبد الله المزني أنَّ المغيرة بن شعبة أراد أنْ يتزوّج بامرأة، فقال النبيّ (عليه السلام):
"فانظر إليها فإنّه أجدر أن يودم بينكما"
. وأخبرنا عبد الله بن حامد، عن محمد بن جعفر، عن علي بن حرب قال: أخبرني أبو معاوية، عن الحجّاج بن أرطأة، عن سهل بن محمد بن أبي خيثمة، عن عمّه سليمان بن أبي خيثمة قال: رأيت محمد بن سلمة يطارد نبيتة بنت الضحّاك على إجار من أياجير المدينة قلت: أتفعل هذا؟ قال: نعم، إنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: "إذا ألقى الله في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أنْ ينظر إليها" .
وأخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد عن بشر بن موسى، عن الحميدي عن سفيان، عن يزيد ابن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة أنّ رجلاً أراد أن يتزوّج امرأة من الأنصار، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: "أُنظر إليها فإنَّ في أعين نساء الأنصار شيئاً" . قال الحميدي: يعني الصّغَر. { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً } حفيظاً.
قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ... } قال أكثر المفسِّرين: نزلت هذه الآية في شأن وليمة زينب. قال أنس بن مالك: أنا أعلم الناس بآية الحجاب، ولقد سألني عنها أُبيّ بن كعب لمّا بنى رسول الله صلّى الله عليه بزينب بنت جحش أولم عليها بتمر وسويق وذبح شاة، وبعثت إليه أُمّي أُمّ سليم بحيس في تور من حجارة، فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أنْ أدعو أصحابه إلى الطعام، فدعوتهم فجعل القوم يجيئون ويأكلون ويخرجون، ثمّ يجيء القوم فيأكلون ويخرجون.
فقلت: يا نبيّ الله قد دعوت حتى ما أجد أحداً أدعوه، فقال: ارفعوا طعامكم فرفعوا وخرج القوم، وبقي ثلاثة نفر يتحدّثون في البيت، فأطالوا المكث، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقمت معه لكي يخرجوا، فمشى رسول الله صلّى الله عليه منطلقاً نحو حجرة عائشة فقال:
" "السلام عليكم أهل البيت" ، فقالوا: وعليك السلام يا رسول الله، كيف وجدت أهلك؟
ثمّ رجع فأتى حجر نسائه فسلّم عليهنّ، فدعون له ربّه، ورجع إلى بيت زينب، فإذا الثلاثة جلوس يتحدّثون في البيت، وكان النبيّ(عليه السلام) شديد الحياء، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمّا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم ولّى عن بيته خرجوا، فرجع رسول الله (عليه السلام) إلى بيته وضرب بيني وبينه ستراً، ونزلت هذه الآية.
وقال قتادة ومقاتل: كان هذا في بيت أُمّ سلمة، دخلت عليه جماعة في بيتها أكلوا، ثمّ أطالوا الحديث، فتأذّى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحيى منهم أن يأمرهم بالخروج، والله لا يستحيي من الحقّ، فأنزل الله عزّ وجلّ: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ } إلاّ أنْ تُدعوا { إِلَىٰ طَعَامٍ } فيؤذن لكم فتأكلوه { غَيْرَ نَاظِرِينَ } منظرين { إِنَاهُ } إدراكه ووقت نضجه، وفيه لغتان أنىً وإنىً بكسر الألف وفتحها، مثل أَلّى وإِلّى ومَعاً ومِعاً، والجمع إناء، مثل آلاء وامعاء، والفعل منه أنى يأنى إنىً بكسر الألف مقصور، وآناء بفتح الألف ممدود. قال الحطيئة:

وأنيت العشا إلى سهيلأو الشعرى فطال بي الأنا

وقال الشيباني:

تمخضت المنون له بيومأَنى ولكل حاملة تمام

وفيه لغة أُخرى: آن يأين أيناً. قال ابن عبّاس: نزلت في ناس من المؤمنين كان يتحيّنون طعام رسول الله صلّى الله عليه، فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك، ثمّ يأكلون ولا يخرجون، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأذّى بهم، فنزلت هذه الآية. و { غَيْرَ } نصب على الحال { وَلَـكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَٱدْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُم } أكلتم الطعام { فَٱنْتَشِرُواْ } فتفرّقوا واخرجوا من منزله { وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } طالبين الأنس بحديث، ومحله خفض مردود على قوله: { غَيْرَ نَاظِرِينَ } ولا غير { مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَٱللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ ٱلْحَقِّ } أي لا يترك تأديبكم وحملكم على الحقّ ولا يمنعه ذلك منه.
حدّثنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب لفظاً قال: أخبرني أبو موسى عمران بن موسى بن الحصين قال: أخبرني أبو عوانة يعقوب بن إسحاق قال: أخبرني أبو عمرو عثمان بن خرزاد الأنطاكي، عن عمرو بن مرزوق، عن جويرية بن أسماء قال: قرئ بين يدي إسماعيل ابن أبي حكيم هذه الآية فقال: هذا [أدب] أدّبَ الله به الثقلاء.
وسمعت الحسن بن محمد بن الحسن يقول: سمعت محمد بن عبدالله بن محمد يقول: سمعت الغلابي يقول: سمعت ابن عائشة يقول: حسبك في الثقلاء أنّ الله تعالى لم يحتملهم وقال: { فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ }.
قوله: { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَٱسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } أخبرنا عبد الله بن حامد، عن محمّد بن يعقوب، عن محمد بن سنان الفزار، عن سهيل بن حاتم، عن ابن عون، عن عمرو بن سعيد، عن أنس بن مالك قال: كنت مع النبي صلّى الله عليه وكان يمرّ على نسائه، فأتى امرأة عرس بها حديثاً فإذا عندهم قوم، فانطلق النبي صلّى الله عليه أيضاً فاحتبس فقضى حاجته، ثمّ جاء وقد ذهبوا، فدخل وأرخى بينه وبيني ستراً قال: فحدّثت أبا طلحة فقال: إن كان كما تقول لينزلنّ شيء في هذا، فنزلت آية الحجاب.
وأنبأني عبدالله بن حامد الوزان أنّ الحسين بن يعقوب حدّثه عن يحيى بن أبي طالب عن عبد الوهاب عن حميد عن أنس قال: قال عمر: يا رسول الله، تدخل عليك البرّ والفاجر، فلو أمرت أُمّهات المؤمنين بالحجاب. فنزلت آية الحجاب.
وأخبرنا محمد بن عبدالله بن حمدون، عن أحمد بن محمد الشرقي، عن محمد بن يحيى عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبي، عن صالح بن شهاب، عن عروة بن الزبير: أنّ عائشة قالت: كان عمر بن الخطّاب يقول لرسول الله صلّى الله عليه: احجب نساءك، فلم يفعل، وكان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يخرجن ليلاً إلى ليل قبل المناصع وهو صعيد أقبح، فخرجت سودة بنت زمعة، وكانت امرأة طويلة فرآها عمر وهو في المجلس فقال: قد عرفتكِ يا سودة حرصاً على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله الحجاب.
وأخبرنا عبدالله بن حامد إجازة، عن محمد بن يعقوب، عن الحسين بن علي بن عفان قال: أخبرني أبو أُسامة، عن مخالد بن سعيد، عن عامر قال: مرَّ عمر على نساء النبي صلّى الله عليه وهو مع النساء في المسجد فقال لهنّ: احتجبن، فإنَّ لكنَّ على النساء فضلاً، كما انّ لزوجكنَّ على الرجال الفضل، فلم يلبثوا إلاّ يسيراً حتى أنزل الله آية الحجاب.
وروى عطاء بن أبي السائب عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: أمر عمر بن الخطاب نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالحجاب فقالت زينب: يابن الخطّاب إنّك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا، فأنزل الله تعالى: { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَٱسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } { ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ }.
وقيل في سبب نزول الحجاب ما أخبرنا أحمد بن محمد أنّ المعافى حدّثه عن محمّد بن جرير قال: حدّثني يعقوب بن إبراهيم، عن هشام، عن ليث، عن مجاهد: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطعم ومعه بعض أصحابه فأصابت يد رجل منهم يد عائشة وكانت معهم، فكره النبي ذلك، فنزلت آية الحجاب.
أخبرنا أبو عبدالله محمد بن أحمد بن علي المزكى قال: أخبرني أبو العبّاس أحمد بن محمد بن الحسين الماسرخسي، عن شيبان بن فروخ الابلي، عن جرير بن حازم، عن ثابت البنائي، عن أنس بن مالك قال: كنت أدخل على رسول الله صلّى الله عليه بغير إذن، فجئت يوماً لأدخل فقال: مكانك يا بني، قد حدث بعدك أنْ لا يدخل علينا إلاّ بإذن.
قوله: { وَمَا كَانَ لَكُمْ } يعني وما ينبغي وما يصلح لكم { أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذٰلِكُمْ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيماً } نزلت في رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: لئن قبض رسول الله صلّى الله عليه لأنكحنّ عائشة بنت أبي بكر.
أنبأني عقيل بن محمد، عن المعافى بن زكريا، عن محمد بن جرير، عن محمد بن المثنى، عن عبد الوهاب، عن داود عن عامر أنّ النبي صلّى الله عليه مات وقد ملك قتيلة بنت الأشعث بن قيس ولم يجامعها، فتزوّجها عكرمة بن أبي جهل بعد ذلك، فشقّ على أبي بكر مشقّة شديدة، فقال له عمر: يا خليفة رسول الله إنّها ليست من نسائه، إنّها لم يخيّرها رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم يحجبها، وقد برّأها منه بالردّة التي ارتدّت مع قومها قال: فاطمأنَّ أبو بكر وسكن.
وروى معمر عن الزهري: أنَّ العالية بنت طيبان التي طلّقها النبيّ صلّى الله عليه تزوّجت رجلاً وولدت له، وذلك قبل أنْ يحرّم على الناس أزواج النبي (عليه السلام).
{ إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } قوله تعالى: { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِيۤ آبَآئِهِنَّ }.
قال ابن عبّاس: لمّا نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أيضاً نكلّمهنّ من وراء حجاب؟ فأنزل الله تعالى: { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِيۤ آبَآئِهِنَّ }.
{ وَلاَ أَبْنَآئِهِنَّ وَلاَ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلاَ نِسَآئِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } في ترك الاحتجاب من هؤلاء وأن يروهن. وقال مجاهد: لا جناح عليهن في وضع جلابيبهن عندهم.
{ وَٱتَّقِينَ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً }.