التفاسير

< >
عرض

أَءُنزِلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ
٨
أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ ٱلْعَزِيزِ ٱلْوَهَّابِ
٩
أَمْ لَهُم مُّلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى ٱلأَسْبَابِ
١٠
جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن ٱلأَحَزَابِ
١١
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو ٱلأَوْتَادِ
١٢
وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لْئَيْكَةِ أُوْلَـٰئِكَ ٱلأَحْزَابُ
١٣
إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ
١٤
وَمَا يَنظُرُ هَـٰؤُلآءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ
١٥
وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْحِسَابِ
١٦
ٱصْبِر عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ٱلأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ
١٧
إِنَّا سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاقِ
١٨
وَٱلطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ
١٩
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ ٱلْحِكْمَةَ وَفَصْلَ ٱلْخِطَابِ
٢٠
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُاْ ٱلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ
٢١

الكشف والبيان

{ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ } نعمة { رَبِّكَ } يعني مفاتيح النبوة، نظيرها في الزخرف { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ } [الزخرف: 32] أي نبوة ربك { ٱلْعَزِيزِ ٱلْوَهَّابِ * أَمْ لَهُم مُّلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى ٱلأَسْبَابِ } أي فليصعدوا في الجبال إلى السماوات، فليأتوا منها بالوحي إلى من يختارون ويشاؤن، وهذا أمر توبيخ وتعجيز.
وقال الضحاك ومجاهد وقتادة: أراد بالأسباب: أبواب السماء وطرقها.
{ جُندٌ } أي هم جُند { مَّا هُنَالِكَ } أي هنالك و(ما) صلة { مَهْزُومٌ } مغلوب، ممنوع عن الصعود إلى السماء { مِّن ٱلأَحَزَابِ } أي من جملة الأجناد.
وقال أكثر المفسرين: يعني أن هؤلاء الملأ الذين يقولون هذا القول، جند مهزوم مقهور وأنت عليهم مظفر منصور.
قال قتادة: وعده الله عزّ وجلّ بمكة أنّه سيهزمهم، فجاء تأويلها يوم بدر من الأحزاب، أيّ كالقرون الماضية الذين قهروا وأهلكوا، ثم قال معزّاً لنبيه صلى الله عليه وسلم { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو ٱلأَوْتَادِ } قال ابن عبّاس: ذو البناء المحكم.
وقال القتيبي: والعرب تقول: هم في عز ثابت الأوتاد، وملك ثابت الأوتاد.
يريدون أنّه دائم شديد، وأصل هذا أن البيت من بيوتهم بأوتاده.
قال الأسود بن يعفر: في ظل ملك ثابت الأوتاد.
وقال الضحاك: ذو القوة والبطش.
وقال الحلبي ومقاتل: كان يعذب الناس بالأوتاد، وكان إذا غضب على أحد مَدّهُ مستلقياً بين أربعة أوتاد كل رجل منه إلى سارية وكل يد منه إلى سارية، فيتركه كذلك في الهواء بين السماء والأرض حتّى يموت.
وقال مقاتل بن حيان: كان يمد الرجل مستلقياً على الأرض ثم يشده بالأوتاد.
وقال السدي: كان يمد الرجل ويشده بالأوتاد ويرسل عليه العقارب والحيّات.
وقال قتادة وعطاء: كانت له أوتاد وأرسال وملاعب يلعب عليها بين يديه.
{ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَـٰئِكَ ٱلأَحْزَابُ * إِن كُلٌّ } ما كل منهم { إِلاَّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ } فوجب عليهم ونزل بهم عذابي { وَمَا يَنظُرُ } ينتظر { هَـٰؤُلآءِ } يعني كفار مكة { إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً } وهي نفخة القيامة.
وقد روي هذا التفسير مرفوعاً إلى النبي (عليه السلام).
{ مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ }.
قال ابن عبّاس وقتادة: من رجوع. الوالبي: يزداد. مجاهد: نظرة. الضحاك: مستوية.
وفيه لغتان: (فُواق) بضم الفاء وهي لغة تميم، وقراءة يحيى والأعمش وحمزة والكسائي وخلف. و(فَواق) بالفتح وهي لغة قريش، وقراءة سائر القرّاء واختيار أبي عبيد.
قال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد، كما يقال حُمام المكوك وحُمامه، وقصاص الشعر وقصاصه.
وفرّق الآخرون بينهما.
قال أبو عبيدة والمؤرخ: بالفتح بمعنى الراحة والإفاقة كالجواب من الإجابة، ذهبا به إلى إفاقة المريض من علته، و(الفُواق) بالضم مابين الحلبتين، وهو أن يحلب الناقة ثم تترك ساعة حتّى يجتمع اللبن فما بين الحلبتين فواق.
فاستعير في موضع الإنتظار مدة يسيرة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من رابط فواق ناقة في سبيل الله حرّم الله جسده على النار" .
{ وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْحِسَابِ }.
قال سعيد بن جبير عن ابن عبّاس: يعني كتابنا.
وعنه أيضاً: القط الصحيفة التي أحصت كل شيء.
قال أبو العالية والكلبي: لمّا نزلت في الحاقة
{ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } [الحاقة: 19]، { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ } [الحاقة: 25].
قالوا على جهة الاستهزاء: (عجّل لنا قطنّا) يعنون كتابنا عجلّه لنا في الدُّنيا.
قيل: يوم الحساب.
وقال الحسن وقتادة ومجاهد والسدي: يعني عقوبتنا وماكتب لنا من العذاب.
قال عطاء: قاله النظر بن الحرث، وهو قوله:
{ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأنفال: 32] وهو الذي قال الله سبحانه { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } [المعارج: 1] قال عطاء: لقد نزلت فيه بضع عشرة آية من كتاب الله عزّ وجلّ.
وقال سعيد بن جبير: يعنون حظنا ونصيبنا من الجنّة التي تقول.
قال الفراء: القَطّ في كلام العرب الحظ، ومنه قيل للصك قطّ.
وقال أبو عبيدة والكسائي: القطّ الكتاب بالجوائة.
قال الأعشى:

ولا الملك النعمان يوم لقيتهبغبطته يعطي القطوط ويأفق

يعني كتب الجوائز أيّ بفضل وبعلو، يقال فرس أفق وناقة أفقه إذا كانا كريمين، وفضّلا على غيرهما.
وقال مجاهد: قطنّا حسابنا، ويقال لِكتاب الحساب: قطّ، وأصل الكلمة من الكتابة.
فقال الله سبحانه لنبيه (عليه السلام): { ٱصْبِر عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ٱلأَيْدِ } ذا القوة في العبادة { إِنَّهُ أَوَّابٌ } مطيع.
عن ابن عبّاس: رجّاع إلى التوبة.
عن الضحاك، سعيد بن جبير: هو المسبّح بلغة الحبش.
أخبرني الحسين بن محمّد الدينوري قال: حدثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدثنا أبو العبّاس عبد الله بن جعفر بن أحمد بن [فارس] ببغداد قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن القاسم قال: حدثنا عمرو بن حصين قال: حدثنا الحسين بن عمرو عن أبي بكر الهذلي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الزرقة يمن وكان داود النبي (عليه السلام) أزرق" .
{ إِنَّا سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ } بتسبيحه.
قال ابن عبّاس: وكان يفهم تسبيح الحجر والشجر.
{ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاقِ }.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبه قال: حدثنا الحسين بن يحيويه قال: حدثنا أبو أُميّة محمّد بن إبراهيم قال: حدثنا الحجاج بن نصير قال: حدثنا أبو بكر الهذلي عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عبّاس قال: كنت أمُرّ بهذه الآية لا أدري مالعشي والإشراق، حتّى حدثتني أُم هاني بنت أبي طالب أن رسول الله (عليه السلام) دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ، ثم صلى الضحى وقال:
"يا أُم هاني هذه صلاة الإشراق" .
روى عطاء الخراساني عن ابن عبّاس قال: لم يزل في نفسي [من] صلاة الضحى شيء حتّى طلبتها في القرآن فوجدتها في هذه الآية { يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاقِ }.
قال عكرمة: وكان ابن عبّاس لا يصلي صلاة الضحى ثم صلى بعدها.
وروي أن كعب الأحبار قال لابن عبّاس رضي الله عنه: إني لأجد في كتاب الله صلاة بعد طلوع الشمس.
فقال ابن عبّاس: أنا أوجدك ذلك في كتاب الله في قصة داود { يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاقِ } وليس الإشراق طلوع الشمس، إنّما هو صفاؤها وضوؤها.
{ وَٱلطَّيْرَ } أيّ وسخّرنا له الطير { مَحْشُورَةً } مجموعة { كُلٌّ لَّهُ } أيّ لداود { أَوَّابٌ } مطيع { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } أيّ قوّيناه.
وقرأ الحسن: وشدّدنا بتشديد الدال.
قال ابن عبّاس: كان أشد ملوك الأرض سلطاناً كان يحرس محرابه كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألف رجل، فذلك قوله { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } بالحرس.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمّد بن خالد بن الحسن قال: حدثنا داود بن سليمان قال: حدثنا عبد بن حميد قال: حدثنا محمّد بن الفضل قال: حدثنا داود بن أبي الفرات عن عليّ بن أحمد عن عكرمة عن ابن عبّاس: أن رجلاً من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم، فاجتمعا عند داود النبي فقال المستعدي: ان هذا غصبني بقرتي.
فسأل داود الرجل عن ذلك فجحده، وسأل الآخر البيّنة فلم يكن له بيّنة. قال لهما داود: قوما حتى أنظر في أمركما.
فقاما من عنده، فأوحى الله سبحانه إلى داود(عليه السلام) في منامه: أن يقتل الرجل الذي استُعدي عليه.
فقال: هذه رؤيا ولست أعجل حتّى أتثبت.
فأوحى الله سبحانه إليه مرة أُخرى أن يقتله. فلم يفعل، فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه الثالثة: أن يقتله أو تأتيه العقوبة من الله، فأرسل داود إلى الرجل فقال له: إن الله قد أوحى إليَّ أن أقتلك.
فقال له الرجل: تقتلني بغير بيّنة ولاثبت فقال له داود: نعم، والله لأُنفذن أمر الله فيك.
فلمّا عرف الرجل أنّه قاتله قال: لا تعجل حتّى أُخبرك أني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته، فلذلك أُخذت.
فأمر به داود فقتل، فاشتدت هيبته في بني إسرائيل عند ذلك لداود، واشتد به ملكه فهو قوله سبحانه: { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ }.
{ وَآتَيْنَاهُ ٱلْحِكْمَةَ } يعني النبوة والاصابة في الأمور. وقال أبو العالية: العلم الذي لاتردّه العقول.
{ وَفَصْلَ ٱلْخِطَابِ } قال ابن عبّاس: بيان الكلام.
وقال الحسن والكلبي وابن مسعود ومقاتل وأبو عبد الرحمن السلمي: يعني علم الحكم والبصر بالقضاء، كأن لا يتتعتع في القضاء بين الناس، وهي إحدى الروايات عن ابن عبّاس.
وقال علي بن أبي طالب: هو البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر.
وأخبرنا أبو حفص عمر بن أحمد بن محمّد بن عمر الجوري قال: أخبرنا أبو بكر بالويه بن محمّد بن بالويه المربتاني بها، قال: حدثنا محمّد بن حفص الحوني قال: حدثنا نصر بن علي الخميصمي قال: أخبرنا أبو أحمد قال: اخبرنا شريك عن الأعمش عن أبي صالح عن كعب في قوله { وَفَصْلَ ٱلْخِطَابِ } قال: الشهود والإيمان.
أنبأني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا عبد الله بن محمّد قال: حدثنا محمّد بن يحيى قال: حدثنا وهب بن جرير قال: أخبرنا [شعبة] عن الحكم عن شريح في قوله { وَفَصْلَ ٱلْخِطَابِ } قال: الشهود والإيمان. وهو قول مجاهد وعطاء بن أبي رباح.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا عبد الله بن عبد الله بن أبي سمرة البغوي قال: حدثنا أحمد بن محمّد أبي شيبة قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم البغوي قال: حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق عن زكريا يعني ابن أبي زائدة عن [السبيعي] قال: سمعت زياداً يقول: { وَفَصْلَ ٱلْخِطَابِ } الذي أُعطي داود، أما بعد وهو أوّل من قالها.
{ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ ٱلْخَصْمِ } الآية. اختلف العلماء بأخبار الأنبياء في سبب امتحان الله سبحانه نبيّه داود بما امتحنه به من الخطيئة.
فقال قوم: كان سبب ذلك أنه تمنى يوماً من الأيام على ربّه عزّ وجلّ منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب (عليهم السلام) وسأله أن يمتحنه نحو الذي كان امتحنهم، ويعطيه من الفضل نحو الذي كان أعطاهم.
وروى السدي والكلبي ومقاتل: عن أشياخهم دخل حديث بعضهم في بعض قالوا: كان داود قد قسّم الدهر ثلاثة أيام: يوماً يقضي فيه بين الناس، ويوماً يخلوا فيه لعبادة ربّه، ويوماً يخلوا فيه لنسائه وأشغاله. وكان يجد فيما يقرأ من الكتب فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال: يارب أرى الخير كله قد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي.
فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: أنهم إبتلوا ببلاء مالم تبتلِ بشيء من ذلك فصبروا عليها. إبتلى إبراهيم بنمرود وبذبح ابنه، وإبتلى إسحاق بالذبح وبذهاب بصره، وإبتلى يعقوب بالحزن على يوسف. وأنك لم تبتلِ بشيء من ذلك.
فقال داود: ربِّ فإبتلني بمثل ما إبتليتهم وأعطني مثل ما أعطيتهم.
فأوحى الله سبحانه إليه: أنك مبتلى في شهر كذا في يوم كذا واحترس.
فلمّا كان ذلك اليوم الذي وعده الله تعالى، دخل داود محرابه وأغلق بابه وجعل يصلي ويقرأ الزبور، فبينا هو كذلك إذ جاءه الشيطان قد تمثل في صورة حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن، فوقعت بين رجليه، فمدَّ يده ليأخذها ويدفعها إلى ابن صغير له، فلما أهوى إليها طارت غير بعيد، من غير أن توئيسه من نفسها فامتد اليها ليأخذها فتنحت، فتبعها فطارت حتّى وقعت في كوة، فذهب ليأخذها فطارت من الكوة، فنظر داود أين تقع، فبعث إليها من يصيدها، فأبصر امرأة في بستان على شط بركة لها تغتسل، هذا قول الكلبي.
وقال السدي: رآها تغتسل على سطح لها، فراى امرأة من أجمل النساء خلقاً، فتعجب داود من حسنها وحانت منها التفاتة وأبصرت ظله، فنفضت شعرها فغطى بدنها، فزاده ذلك إعجاباً بها فسأل عنها. فقيل: هي تشايع بنت شايع امرأة أوريا بن حنانا، وزوجها في غزاة بالبلقاء مع أيوب بن صوريا ابن أخت داود.
فكتب داود إلى ابن أخته أيوب صاحب بعث البلقاء: أن ابعث أوريا إلى موضع كذا وقدّمه قبل التابوت وكان من قدّم على التابوت لا يحل له أن يرجع وراءه حتّى يفتح الله سبحانه على يديه أو يستشهد، فبعثه وقدّمه فَفُتح له، فكتب إلى داود بذلك، فكتب إليه أيضاً: أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا. فبعثه فَفُتح له، فكتب إلى داود بذلك، فكتب إليه أيضاً: أن ابعثه إلى عدو كذا أشدّ منه بأساً. فبعثه فقتل في المرة الثالثة، فلمّا انقضت عدّة المرأة تزوجّها داود فهي أم سليمان.
وقال آخرون: سبب امتحانه أن نفسه حدثته أنّه يطيق قطع يوم بغير مقارفة.
وهو ما أخبرنا شعيب بن محمّد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا أحمد بن الأزهر قال: حدثنا روح بن عبادة قال: حدثنا سعيد عن مطر عن الحسن قال: إن داود جزّأ الدهر أربعة أجزاء: يوماً لنسائه، ويوماً للعبادة، ويوماً للقضاء بين بني إسرائيل، ويوماً لبني إسرائيل يذاكرهم ويذاكرونه ويبكهم ويبكونه.
قال: فلما كان يوم بني إسرائيل ذكروا فقالوا: هل يأتي على الإنسان يوم لايصيب فيه ذنباً؟
فأضمر داود في نفسه أنه سيطبق ذلك، فلمأا كان يوم عبادته غلق أبوابه وأمر أن لايدخل عليه أحد، وأكبّ على قراءة التوراة، فبينما هو يقرأ إذ حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن قد وقعت بين يديه، فأهوى إليها ليأخذها، فطارت فوقعت غير بعيد من غير أن توئيسه من نفسها، فما زال يتبعها حتّى أشرف على امرأة تغتسل فأعجبه خلقها وحسنها، فلمّا رأت ظله في الأرض جللت نفسها بشعرها، فزاده ذلك بها إعجاباً، وكان قد بعث زوجها على بعض جيوشه، فكتب إليه أن أسر إلى مكان كذا وكذا مكاناً، إذا سار إليه قُتل ولم يرجع ففعل فأصيب، فخطبها داود فتزوجها.
وقال بعضهم: في سبب ذلك ما أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمّد قال: حدثنا مخلد ابن جعفر الباقرجي قال: حدثنا الحسين بن علوية قال: حدثنا إسماعيل قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن قال: قال داود لبني إسرائيل حين ملك: والله لأعدلن بينكم، فلم يستثن فابتلي به.
وقال أبو بكر محمّد بن عمر الوراق: كان سبب ذلك أن داود (عليه السلام) كان كثير العبادة فأعجب بعلمه فقال: هل في الأرض أحد يعمل عملي؟
فأتاه جبرئيل فقال: ان الله عزّ وجلّ يقول: أعجبت بعبادتك والعُجب يأكل العبادة، فإن أُعجبت ثانياً وكلتك إلى نفسك.
قال: يارب كلني إلى نفسي سنة.
قال إنها لكثيرة.
قال: فساعة.
قال: شأنك بها.
فوكل الأحراس ولبس الصوف ودخل المحراب ووضع الزبور بين يديه، فبينا هو في نسكه وعبادته إذ وقع الطائر بين يديه وكان من أمر المرأة ما كان.
قالوا: فلمّا دخل داود بامرأة أوريا لم تلبث إلاّ يسيراً حتّى بعث الله سبحانه ملكين في صورة أنسيين فطلبا أن يدخلا عليه، فوجداه في يوم عبادته فمنعهما الحرس أن يدخلا عليه، فتسورا المحراب عليه، فما شعر وهو يصلي إلاّ وهو بهما بين يديه جالسين، فذلك قوله: { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ ٱلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَِ } وإنّما جعلوا جمع الفعل، لأن الخصم اسم يصلح للواحد والجميع والإثنين والمذكر والمؤنث.
قال لبيد:

وخصم يعدون الدخول كأنهمقروم غيارى كل أزهر مصعب

وقال آخر:

وخصم عضاب ينفضون لحاهمكنفض البراذين العراب المخاليا

وإنّما جمع وهما إثنان، لأن معنى الجمع ضم شيء إلى شيء فالإثنان فما فوقهما جماعة، كقوله عزّ وجلّ { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [التحريم: 4].