التفاسير

< >
عرض

صۤ وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ
١
بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ
٢
كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ
٣
وَعَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ
٤
أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ
٥
وَٱنطَلَقَ ٱلْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ ٱمْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ
٦
مَا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِى ٱلْمِلَّةِ ٱلآخِرَةِ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ ٱخْتِلاَقٌ
٧

الكشف والبيان

{ صۤ } قرأ العامة بالجزم، واختلفوا في معناه.
فقال الكلبي: عن أبي صالح، سُئل جابر بن عبد الله وابن عباس عن { صۤ } فقالا: لا ندري.
وقال عكرمة: سأل نافع الأزرق عبد الله بن عباس عن { صۤ } فقال: كان بحراً بمكّة وكان عليه عرش الرّحمن، إذ لا ليل ولا نهار.
سعيد بن جبير: { صۤ } بحر يُحيي الله به الموتى بين [النفختين].
الضحّاك: صدق الله. مجاهد: فاتحة السّورة. قتادة: اسم من أسماء القرآن. السدّي: قسم أقسم الله سبحانه وتعالى به، وهو اسم من أسماء الله عزّ وجلّ. وهي رواية الوالبي عن ابن عبّاس.
محمد بن كعب القرظي: هو مفتاح أسماء الله، صمد، وصانع المصنوعات، وصادق الوعد.
وقيل: هو اسم السّورة، وقيل: هو إشارة إلى صدود الكفّار من القرآن. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق: صاد بخفض الدّال، من المصادّاة، أي عارض القرآن بعملك وقابله به، واعمل بأوامره، وانته عن نواهيه.
وقرأ عيسى بن عمر صاد بفتح الدّال، ومثلهُ قاف ونون، لإجتماع السّاكنين، حرّكها إلى أخف الحركات.
وقيل: على الإغراء.
وقيل في { صۤ }: إنّ معناه صاد محمّد قلوبَ الخلق واستمالها حتّى آمنوا به.
{ وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ } قال ابن عباس ومقاتل: ذي البيان.
الضحاك: ذي الشرف، دليله قوله عزّ وجل:
{ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [الزخرف: 44] .
وقيل: ذي ذكر الله عزّ وجلّ.
واختلفوا في جواب القسم، فقال قتادة: موضع القسم قوله: { بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } كما قال سبحانه:
{ قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوۤاْ } [ق: 1 - 2]. وقال الأخفش جوابه قوله: { إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ } كقوله عزّ وجل: { تَٱللَّهِ إِن كُنَّا ... } [الشعراء: 97] وقوله: { وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ } [الطارق: 1] { إِن كُلُّ نَفْسٍ } [الطارق: 4]. وقيل: قوله: { إِنَّ هَـٰذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ }.
وقال الكسائي: قوله: { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ ٱلنَّارِ }.
وقيل: مقدم ومؤخر تقديره { بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } { وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ }.
وقال الفراء: { صۤ } معناها وجب وحقّ، فهي جواب لقوله { وَٱلْقُرْآنِ } كما تقول: [نزل] والله.
وقال القتيبي من قال جواب القسم { بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } قال: "بل" إنما تجيء لتدارك كلام ونفي آخر، ومجاز الآية أن الله أقسم ب { صۤ وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ * بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } ويعني حمية جاهلية وتكبر.
{ وَشِقَاقٍ } يعني خلاف وفراق.
{ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ } بالأيمان والاستغاثة عند نزول العقوبة وحلول النقمة بهم.
{ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } وليس بوقت فرار ولا بر.
وقال وهب: { وَّلاَتَ } بلغة السريانية إذا أراد السرياني أن يقول وليس يقول: ولات. وقال أئمة أهل اللغة: { وَّلاَتَ حِينَ } مفتوحتان كأنّهما كلمة واحدة، وإنّما هي "لا" زيدت فيها التاء كقولهم: رُبّ ورُبَّت، وثمَّ وثمَّت.
قال أبو زيد الطائي:

طلبوا صلحنا ولات أوانفأجبنا أن ليس حين بقاء

[وقال] آخر:

تذكّرت حبّ ليلى لات حيناًوأمسى الشيب فقطع القرينا

وقال قوم: إن التاء زيدت في حين كقول أبي وجزة السعديّ:

العاطفون حين ما من عاطفوالمطعمون زمان ما من مطعم

وتقول العرب: تلان بمعنى الآن، ومنه حديث ابن عمر سأله رجل عن عثمان رضي الله عنه فذكر مناقبه ثم قال: اذهب بها تلان إلى أصحابك يريد الآن.
وقال الشاعر:

تولى قبل يوم بين حماناوصلينا كما زعمت تلانا

فمن قال: إن التاء مع "لا" قالوا: قف عليه لأن بالتاء [...].
وروى قتيبة عن الكسائي أنّه كان يقف: ولاه، بالهاء، ومثله روي عن أهل مكة، ومن قال: إن التاء مع حين. قالوا: قف عليه ولا، ثم يبتدىء بحين مناص. وهو اختيار أبي عبيد قال: لأني تعمدّت النظر إليه في الأمام مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه عنه فوجدت التاء متصلة مع حين قد ثبتت: "تحين".
وقال الفراء: النوص بالنون التأخر، والبوص بالباء التقدم. وجمعهما امرؤ القيس في بيت فقال:

أمن ذكر ليلى إذ نأتك تنوصفتقصر عنها خطوة وتبوص

فمناص مفعل من ناص مثل مقام.
قال ابن عباس: كان كفار مكة إذا قاتلوا فاضطروا في الحرب قال بعضهم لبعض: مناص، أي اهربوا وخذوا حذركم، فلما نزل بهم العذاب ببدر قالوا: مناص، فأنزل الله سبحانه { وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ }.
{ وَعَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً }.
وذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسلم فشق ذلك على قريش وفرح به المؤمنون، فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش، وهم الصناديد والأشراف، وكانوا خمسة وعشرين رجلاً، الوليد بن المغيرة وهو أكبرهم سنّاً، وأبو جميل ابن هشام، وأُبي وأُميّة ابنا خلف، وعمر بن وهب بن خلف، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وعبد الله بن أُميّة والعاص بن وائل، والحرث بن قيس، وعدي بن قيس، والنضر بن الحرث، وأبو البحتري بن هشام، وقرط بن عمرو، وعامر بن خالد، ومحرمة بن نوفل، وزمعة بن الأسود، ومطعم بن عدي، والأخنس بن سريق، وحويطب ابن عبد العزى، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، والوليد بن عتبة، وهشام بن عمر بن ربيعة، وسهيل بن عمرو، فقال لهم الوليد بن المغيرة: امشوا إلى أبي طالب. فأتوا أبا طالب فقالوا له: أنت شيخنا وكبيرنا، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء، وإنّا أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك.
" "فأرسل أبو طالب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فدعاه فقال له: يابن أخ هؤلاء قومك يسألونك السواء فلا تمل كل الميل على قومك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وماذا يسألوني؟ فقال: يقولون ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وآلهك.
فقال النبي (عليه السلام): أتعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟ فقال أبو جهل: لله أبوك لنعطينكها وعشر أمثالها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا لا إله إلاّ الله."
فنفروا من ذلك وقاموا وقالوا: { أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً } كيف يسع الخلق كلهم إله واحد.
{ إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } أي عجيب.
قال مقاتل: بلغة أزدشنوه.
قال أهل اللغة: العجيب والعجاب واحد كقولك كريم وكرام وكبير ووكبار وطويل وطوال وعريض وعراض وسكين حديد وحداد.
أنشد الفراء:

كحلقة من أبي رماحتسمعها لاهة الكبار

وقال آخر:

نحن أجدنا دونها الضراباإنّا وجدنا ماءها طيابا

يريد طيباً.
وقال عباس بن مرداس: تعدوا به سلميةٌ سُراعه. أي سريعة.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعيسى بن عمر: عجّاب بالتشديد. وهو المفرط في العجب.
فأنشد الفراء:

آثرت إدلاجي على ليل جرّةهضيم الحشا حسانة المتجرد

وأنشد أبو حاتم:

جاءوا بصيد عجّب من العجبأُزيرق العينين طوال الذنب

{ وَٱنطَلَقَ ٱلْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ ٱمْشُواْ } يعني إلى أبي طالب فأشكوا إليه ابن أخيه { وَاْصْبِرُواْ } واثبتوا { عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ } نظيرها في الفرقان { لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا } [الفرقان: 42].
{ إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ } أي لأمر يُراد بنا { مَا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا } الذي يقول محمّد { فِى ٱلْمِلَّةِ ٱلآخِرَةِ }.
قال ابن عبّاس والقرظي والكلبي ومقاتل: يعنون النصرانية، لأن النصارى تجعل مع الله إلهاً.
وقال مجاهد وقتادة: يعنون ملة قريش، ملة زماننا هذا.
{ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ ٱخْتِلاَقٌ * أَأُنزِلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ } القرآن { مِن بَيْنِنَا } قال الله عزّ وجلّ: { بَلْ هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي } أيّ وحيي.
{ بَل لَّمَّا } أي لم { يَذُوقُواْ عَذَابِ } ولو ذاقوه لما قالوا هذا القول.