التفاسير

< >
عرض

أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ ٱلَّيلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
٩
قُلْ يٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ
١٠
قُلْ إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ
١١
وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ ٱلْمُسْلِمِينَ
١٢
قُلْ إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
١٣
قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي
١٤
فَٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ
١٥
لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ ٱللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يٰعِبَادِ فَٱتَّقُونِ
١٦
وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فَبَشِّرْ عِبَادِ
١٧
ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَاهُمُ ٱللَّهُ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
١٨
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي ٱلنَّارِ
١٩
-الزمر

الكشف والبيان

{ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ } قرأ نافع وابن كثير ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة: (أمن) بتخفيف الميم.
وقرأ الآخرون بتشديده، فمن شدّده فله وجهان، أحدهما: تكون الميم في أم صلة ويكون معنى الكلام الإستفهام، وجوابه محذوف مجازه: أمن هو قانت كمن هو غير قانت، كقوله: { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } كمن لم يشرح الله صدره، أو تقول: أمن هو قانت كمن جعل لله أنداداً.
والوجه الثاني: أن يكون بمعنى العطف على الاستفهام مجازه: فهذا خير أم من هو قانت، فحذف لدلالة الكلام عليه ونحوها كثير.
ومن خفف فله وجهان.
أحدهما: أن يكون الألف في (أمن) بمعنى حرف النداء، تقديره: يامن هو قانت، والعرب تنادي بالألف كما تنادي بياء فتقول: يازيد أقبل، وأزيد أقبل.
قال أوس بن حجر:

أبني لبيني لستم بيدألا يد ليست لها عضد

يعني يابني ليتني.
وقال آخر:

أضمر بن ضمرة ماذا ذكرتمن صرمة أخذت بالمغار

فيكون معنى الآية: قل تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار، ويا من هو قانت آناء الليل إنك من أهل الجنّة، كما تقول: فلان لايصلي ولايصوم، فيا من تصلي وتصوم أبشر، فحذف لدلالة الكلام عليه.
والوجه الثاني: أن يكون الألف في (أمن) ألف إستفهام، ومعنى الكلام: أهذا كالذي جعل لله أنداداً، فاكتفى بما سبق إذ كان معنى الكلام مفهوماً.
كقول الشاعر:

فاقسم لو شيء أتانا رسوله سواكولكن لم نجد لك مدفعاً

أراد لدفعناه.
وقال ابن عمر: القنوت قراءة القرآن وطول القيام.
وقال ابن عبّاس: الطاعة.
{ آنَآءَ ٱللَّيْلِ } ساعاته { سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ }.
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان، أخبرنا محمّد بن خالد، أخبرنا داود بن سليمان، أخبرنا عبد بن حميد، حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا يعقوب بن عبد الله عن جعفر عن سعيد بن جبير: أنه كان يقرأ: (أمن هو قانت اناء الليل ساجداً وقائماً يحذر عذاب الآخرة).
{ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ }.
قال مقاتل: نزلت في عمار بن ياسر وأبي حذيفة بن المغيرة بن عبد الله المخزومي.
{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ } يعني عمار { وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } يعني أبا حذيفة { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ }.
أخبرنا الحسين بن محمّد بن العدل حدثنا هارون بن محمّد بن هارون العطار حدثنا حازم ابن يحيى الحلواني حدثنا محمّد بن يحيى بن الطفيل حدثنا هشام بن يوسف حدثني محمّد بن إبراهيم اليماني قال: سمعت وهب بن منبه يقول: سمعت ابن عبّاس يقول: من أحب أن يهوّن الله تعالى الموقف عليه يوم القيامة، فليره الله في سواد الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربّه.
{ قُلْ يٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةٌ } يعني الجنّة، عن مقاتل.
وقال السدي: يعني العافية والصحة.
{ وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةٌ } فهاجروا فيها واعتزلوا الأوثان، قاله مجاهد.
وقال مقاتل: يعني أرض الجنّة.
{ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ }.
قال قتادة: لا والله ما هنالك مكيال ولا ميزان.
أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه الدينوري بقراءتي عليه، حدثنا أحمد بن محمّد بن إسحاق السني حدثنا إبراهيم بن محمّد بن الضحاك حدثنا نصر بن مرزوق حدثنا اسيد بن موسى حدثنا بكر بن حبيش عن ضرار بن عمرو عن زيد الرقاشي عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"تنصب الموازين يوم القيامة، فيؤتى بأهل الصلاة فيؤتون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الصيام فيؤتون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الصدقة فيؤتون أجورهم بالموازين، ويُؤتى بأهل الحج فيؤتون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان، ويصب عليهم الأجر صباً بغير حساب، قال الله تعالى: { إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } حتّى يتمنى أهل العافية في الدُّنيا أن أجسادهم تُقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل" .
قال حدثنا أبو علي بن جش المقرىء قال: حدثنا أبو سهل (عن إسماعيل بن سيف) عن جعفر بن سليمان الضبعي عن سعد بن الطريف عن الأصبغ بن نباتة قال: دخلت مع علي بن أبي طالب إلي الحسن بن علي رضي الله عنه نعوده فقال له علي: كيف أصبحت يابن رسول الله؟
قال: أصبحت بنعمة الله بارئاً.
قال: كذلك إن شاء الله.
ثم قال الحسن: أسندوني. فأسنده عليّ إلى صدره ثم قال: سمعت جَدي رسول الله يقول:
"يابني أدِّ الفرائض تكن من أعبد الناس، وعليك بالقنوع تكن أغنى الناس، يا بني إن في الجنّة شجرة يُقال لها: شجرة البلوى، يؤتى بأهل البلاء فلا يُنصب لهم ميزان ولا يُنشر لهم ديوان، يُصبّ عليهم الأجر صبًّا ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية { إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } " .
حدثنا الحرث بن أبي اسامة حدثنا داود بن المخبر حدثنا عباد بن كثير عن أبي الزناد عن [.........] [عن أبي ذر عن النبي أنه] قال: "من سرّه أن يلحق بذوي الألباب والعقول فليصبر على الأذى والمكاره فذلك انه [.........] الجزع ومن جزع صيّره جزعه إلى النار، وما نال الفوز في القيامة إلاّ الصابرون إن الله تعالى يقول: { إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } وقال الله تعالى: { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ } " .
{ قُلْ إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ * وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ ٱلْمُسْلِمِينَ } من هذه الأمة { قُلْ إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي } فعبدت غيره { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } وهذا حين دعى إلى دين آبائه، قاله أكثر المفسرين.
وقال أبو حمزة الثمالي والسبب هذه الآية منسوخة، إنما هذا قبل أن غُفِرَ ذنب رسول الله (عليه السلام).
{ قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي * فَٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ }.
أمر توبيخ وتهديد كقوله
{ ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ } [فصلت: 40]. وقيل: نسختها آية القتال { قُلْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ } وأزواجهم وخدمهم في الجنّة { يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ }.
قال ابن عبّاس: إن الله تعالى جعل لكل إنسان منزلاً في الجنّة وأهلاً، فمن عمل بطاعة الله تعالى كان له ذلك المنزل والأهل، ومن عمل بمعصية الله [أخذه] الله تعالى إلى النار، وكان المنزل ميراثاً لمن عمل بطاعة الله إلى ما كان له قبل ذلك وهو قوله تعالى:
{ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْوَارِثُونَ } [المؤمنون: 10].
{ لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ } أطباق وسرادق { مِّنَ ٱلنَّارِ } ودخانها { وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } مهاد وفراش من نار، وإنما سمّي الأسفل ظلاً، لأنها ظلل لمن تحتهم، نظيره قوله تعالى:
{ لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } [الأعراف: 41] وقوله: { يَوْمَ يَغْشَاهُمُ ٱلْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } [العنكبوت: 55] وقوله: { أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } [الكهف: 29] وقوله: { وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ } [الواقعة: 43] وقوله سبحانه وتعالى: { ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ } [المرسلات: 30].
{ ذَلِكَ يُخَوِّفُ ٱللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يٰعِبَادِ فَٱتَّقُونِ * وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّاغُوت } الأوثان { أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوۤاْ } رجعوا له { إِلَى ٱللَّهِ } إلى عبادة الله { لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ } في الدُّنيا بالجنّة وفي العقبى { فَبَشِّرْ عِبَادِ * ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } أرشده وأهداه إلى الحق.
أخبرنا الحسين بن محمّد الدينوري حدثنا أحمد بن محمّد بن إسحاق أخبرنا إبراهيم بن محمّد حدثنا يونس حدثنا ابن وهب أخبرنا يحيى بن أيوب عن خالد بن يزيد عن عبد الله بن زحر عن سعيد بن مسعود قال: قال أبو الدرداء: لولا ثلاث ما أحببت أن أعيش يوماً واحداً: الظما بالهواجر، والسجود في جوف الليل، ومجالسه أقوام ينتقون من خير الكلام كما ينتقي طيب التمر.
قال قتادة: أحسنهُ طاعة الله.
وقال السدي: أحسنه مايرجون به فيعملون به.
{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَاهُمُ ٱللَّهُ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ }.
عن ابن زيد في قوله: { وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّاغُوتَ } الآيتين: حدثني أبي: أن هاتين الآيتين نزلتا في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون: لا إله إلاّ الله، وهم زيد بن عمرو وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي.
{ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ } [يريد أبا لهب وولده] { أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي ٱلنَّارِ } أي: هو يكون من أهل النار، كرر الإستفهام كما كرر: أنكم
{ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } [المؤمنون: 35].
ومثله كثير.