التفاسير

< >
عرض

لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
١١٤
وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً
١١٥
إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً
١١٦
إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَٰثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَٰناً مَّرِيداً
١١٧
-النساء

الكشف والبيان

{ لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ }.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس يعني قوم طعمة { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ } أي حثّ عليها { أَوْ مَعْرُوفٍ } يعينه بفرض أسباب { أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ } يعني بين طعمة واليهودي { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ } القرض بمنح أو هدية { ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ } أي طلب رضاه { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ } في الآخرة { أَجْراً عَظِيماً } يعني جنة.
وعن ابن سيرين: معنى النجوى في الكلام المفرد به الجماعة، والانسان سراً كان أو ظاهراً، ومعنى النجوى في لغة خاصة ومنه نجوت الجلد عن البعير وغيره أي ألقيته عنه.
قال الشاعر:

فقلت أنجوا منها نجا الجلد انهسيرضيكما منها سنام وغار به

ويقال: نجوت فلاناً إذا استنكهته.
قال الشاعر:

نجوت مجالداً فوجدت منهكريح الكلب مات حديث عهد

ونجوت وتر واستنجيته إذا أخلصه.
قال الشاعر:

فتبازت فتبازخت لهاكجلسة الأعسر يستنجي الوتر

وأصله كله من النجوة فهو مرتفع من الأرض.
قال الشاعر:

كمن بنجوته كمن بعقوتهوالمستكن كمن يمشي بقرواح

فمعنى { لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ } يعني ما دوّن منهم من الكلام (إلاّ من أمر بصدقة) يجوز ان يكون في موضع الخفض والنصب والرفع، فوجه الخفض على قولك: لاخير في كثير من نجواهم إلاّ فيمن أمر بصدقة.
والنجوى ههنا الرجال المتناجون كما قال: ولاهم نجوى.
وقال قائلون: النجوى لمنة فيه فالمنصوب يعلا أن يجعل النجوى فعلاً ويكون قوله إلاّ استنثاء من غير الجنس فيكون وجه النصب ظاهراً.
قال النابغة:

إلاّ الأواري لأيّا ما أبينهاوالنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد

وقد يكون في موضع رفع فمن نصب على المعرفة.
وقال الشاعر:

وبلدة ليس بها أنيسإلاّ اليعافير وإلاّ العيس

{ وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ } نزلت في طعمة بن الأبرق أيضاً وذلك إنه لما نزل القرآن فيه وعلم قومه إنه ظالم وخاف هو على نفسه من القطع والفضيحة، هرب إلى مكة فأنزل الله فيه { وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ } أي يخالف (من بعد ما تبين له الهدى) أي التوحيد بحدوده { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } يقول غير دين المؤمنين دين أهل مكة عبادة الاوثان { نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ } نكله وما أدخره إلى ما تولى في الدنيا { وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } فلم ينتهِ طعمة ولم يراجع وتعمد فأدلج على الرجل من بني سليم من أهل مكة فقال له الحجاج: كف أخلاط فنقب بيته فسقط عليه حجر من البيت فتسبب فيه فلم يستطع أن يدخل فقال رجّحني بمعنى أصبح فأخذ [يتفل]، فقال بعضهم: دعوه فإنه لجأ إليكم، فتركوه وأخرجوه من مكة فخرج مع تجار من قضاعة نحو الشام فرد فراراً منهم فسرق بعض بضاعتهم وهرب فطلبوه وأخذوه فرموه بالحجارة حتى قتلوه، فصار قبره تلك الاحجار ويقال انه ركب البحر إلى جدّة فسرق من السفينة كيساً فيه دنانير فأمسكوا به فأخذ وأُلقي في البحر، ويقال إنه نزل في حرة بني سليم وكان يعبد صنماً لهم إلى إن مات، فأنزل الله فيه { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } فنزل فيه { { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } [المائدة: 38] الآية. جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله { وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ }: نزلت هذه الآية في نفر من قريش، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ودخلوا في الإسلام، فأعطاهم رسول الله ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين ورجعوا إلى عبادة الاوثان، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية { وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ) أي يفارق الرسول، ويعاديه ويحاربه (مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ } يعني من بعد ماوضح له إن محمد عبده ورسوله { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي غير طريق المسلمين { نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ } أي نكله إلى الأصنام يوم القيامة، وهي لا تملك ضراً ولانفعاً ولا ينجيهم من عذاب الله ونصله جهنم بعبادة الأصنام.
{ وَسَآءَتْ مَصِيراً } يعني بئس المنزل حلوا به يوم القيامة.
الضحاك عن ابن عباس: قوله تعالى { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } قال: إن شيخاً من الاعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يانبي الله أني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا إلاّ إني لم اشرك بالله شيئاً منذ عرفته، وآمنت به ولم اتخذ من دونه ولياً ولم أواقع المعاصي جرأة على الله ولا مكابرة له ولا توهمت طرفة عين، إني أعجز الله هرباً وإني لنادم تائب مستغفر فما حالي عند الله؟ فأنزل الله عز وجل { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } والشرك ذنب لا يغفر لمن مات عليه { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } يعني فقد ذهب عن الطريق وحرم الخير كله.
واعلم أن في قوله تعالى { وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ } دليل على قوة حجة الاجماع وفي قوله: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } دليل على فساد قول الخوارج حين زعموا أن مرتكب الكبيرة كافر وذلك قوله عز وجل قال: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ } ففرّق بين الشرك وسائر الذنوب وحَتم على نفسه بأن لايغفر الشرك.
لو كان الكبيرة كفراً لكان قوله { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } مستوعباً فلما فرّق بين الشرك وسائر الذنوب بان فساد قولهم، وقد بيّن الله تعالى بأنه الشرك في آخر القصة وهو قوله { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً } وقد علم أن صاحب الكبيرة غير مستحل لها فلم يجز أن يكون حكمه حكم الكافر، وفيه دليل على فساد قول المعتزلة في المنزلة [بين الشرك والإيمان] إذ الله تعالى لم يجعل بين الشرك والإيمان منزلة ولم يجعل الذنوب ضداً للإيمان.
وكان فيه فساد قول من جعل الكبيرة الكفر، وفيه دليل على فساد قول المرجئة حين قالوا: إن المؤمن لايعذّب، وإن كان مرتكباً للذنوب. لأن الله أخرج المشرك من المشيئة وجعل الحكم فيه حتماً، فلو لم يجز تعذيب المؤمن المذنب لأخرجه من باب الاستثناء وأطلق الحكم فيه كما [علّقه] في الشرك، وفيه دليل على فساد قول الوعيدية وقد ذكرناه من قبل. ثم نزلت في أهل مكة { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً } من دونه كقوله تعالى
{ { وَقَالَ رَبُّكُـمُ ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر: 60] أي اعبدوني أستجب، لكم يدلّ عليه قوله بعده { { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي } [غافر: 60] من دونه، أي من دون الله وكان في كل واحدة فيهن شيطان يتراءى للسَدنة والكهَنة يكلمهم فذلك قوله { وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً } [النساء: 117] وكان المشركون يدعون اصنامهم باسمها وكان هذا قول مجاهد والكلبي وأكثر المفسرين.
ويدل على صحة هذا التأويل قراءة ابن عباس: إن يدعون من دونه إلاّ إناثاً جمع الوثن فصيّر الواو همزة كقوله أقب ووقب. وأصله وثن وقرئت إنثا على جمع الإناث كمثل مثال ومثل وثمار وثمر. قال الحسن وقتادة وأبو عبيدة: إن يدعون من دونه إلاّ إناثاً يعني أمواتاً لاروح فيه خشبة وحجر ومدر ونحوها.
وذلك إن الموات كلها يخبر عنها كما يخبر عن المؤنث يقول من ذلك الأصنام متعجبين، فإن يدعون وما تعبدون إلاّ شيطاناً مريداً والمريد المارد فقيل: بمعنى فاعل. نحو قدير وقادر وهو الشديد العاتي الخارج من الطاعة. يقال: مرد الرجل يمرد مروداً ومراده إذا عتى وخرج من الطاعة وأصل المريد من قول العرب: حدثنا ممرد أي مملس.
ويقال: شجرة مردا إذا يتناثر ورقها، ولذلك سمي من لم تنبت لحيته أمرد، أي أملس موضع اللحية.
فالمراد: الخارج من الطاعة المتملّص منها.