التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
١٠٥
يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ ٱثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ ٱلصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ ٱلآَثِمِينَ
١٠٦
فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا ٱسْتَحَقَّآ إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا ٱعْتَدَيْنَآ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ
١٠٧
ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يَأْتُواْ بِٱلشَّهَادَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَآ أَوْ يَخَافُوۤاْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ وَٱسْمَعُواْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ
١٠٨
يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ
١٠٩
-المائدة

الكشف والبيان

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } الآية، اختلف العلماء في تأويل هذه الآية فأجراها بعضهم على الظاهر.
وقال ضمرة بن ربيعة: تلا الحسن هذه الآية، وقال: الحمد للّه لها والحمد للّه عليها ما كان مؤمن فيما مضى ولا مؤمن فيما بقي إلاّ وإلى جانبه منافق يكره عمله.
وقال بعضهم: معناها عليكم أنفسكم فاعملوا بطاعة اللّه { لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ } فأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر.
أبو البحتري عن حذيفة في هذه الآية: إذا أمرتم ونهيتم.
وروى إسماعيل بن أبي خالد عن أبي ظبيان عن قيس بن أبي حازم قال: قال أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) على المنبر: إنكم تقرؤن هذه الآية { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } الآية وتضعونها غير موضعها ولا تدرون ماهي وإني سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول:
"إن الناس إذا رأوا منكراً فلم يغيروه عمّهم اللّه بعقاب، فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ولا تغتروا بقول اللّه { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } فيقول أحدكم: عليّ نفسي، واللّه لتأمرنّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو [ليستعملن] عليكم شراركم فليس منكم هو في العذاب، ثم ليدعنّ اللّه خياركم فلا يستجيب لهم" . يدل عليه حديث أبي هريرة قال: "قلنا: يا رسول اللّه إن لم نأمر بالمعروف ولم ننه عن المنكر حتى لا يبقى من المعروف شيء إلاّ عملنا به ولا من المنكر شيء إلاّ إنتهينا عنه ولا نأمره ولا ننهي أبداً.
فقال (عليه السلام): فمروا بالمعروف فإن لم [يقبلوا به] كله ما نهوا عن المنكر وإن لم ينتهوا عنه كله"
. وقيل: معنى الآية: عليكم أنفسكم إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يقبل منكم.
قال شقيق بن عقد: قيل لابن عمر: لو جلست في هذه الأيّام فلم تأمر ولم تنه فإن اللّه قال { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ }.
فقال ابن عمر: إنها ليست لي ولا لأصحابي، لأن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال:
"ألا فليبلغ الشاهد الغائب" فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم تقبل منهم.
وروى سهل بن الأشهب عن الحسين والربيع عن أبي العالية إن هذه الآية قرأت على ابن مسعود { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ }، فقال ابن مسعود: ليس هذا بزمانها قولوها ما قبلت منكم فإذا رُدت عليكم فعليكم أنفسكم، ثم قال: إن القرآن نزل حين نزل فمنه آي قد مضى تأويلهن ومنه آي وقع تأويلهن على عهد رسول اللّه ومنه آي يقع تأويلهن بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم يسير ومنه من يقع آي لا ينهض بعد اليوم ومنه آي يقع في آخر الزمن ومنه آي يقع تأويلهن يوم القيامة ما ذكر من الحساب والجنة والنار فما دامت قلوبكم وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعاً ولم يذق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهوا، فإذا اختلفت القلوب والأهواء وأُلبستم شيعاً وذاق بعضكم بأس بعض فامْرُؤ ونفسه فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية.
قال أبو أميّة السمعاني: سمعت أبا ثعلبة [الخشني] عن هذه الآية { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ }.
فقال أبو ثعلبة: سألت عنها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال:
"ائمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت ديناً موثراً وشحاً مطاعاً وهوىً متبعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك وذر عوامهم فإن وراءكم أياماً أيام الصبر فإذا عمل العبد بطاعة اللّه لم يضره من ضل بعده وهلك وأجر العامل يومئذ بمثل الذي أنتم عليه كأجر خمسين عامل.
قالوا: يا رسول اللّه كأجر خمسين عاملاً منهم؟
قال: لا بل كأجر خمسين عاملاً منكم"
.
وقال بعضهم: نزلت هذه الآية في أهل الأهواء.
وقال أبو جعفر الرازي: دخل على صفوان بن حرث شاب من أصحاب الأهواء فذكر شيئاً من أمره، فقال صفوان: ألا أدلك على خاصة اللّه التي تخص بها أولياءه، { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } الآية.
وقال الضحّاك: عليكم أنفسكم إذا إختلفت الأهواء ما لم يكن سيف أو سوط.
وقال ابن جبير: نزلت هذه الآية في أهل الكتاب يعني عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل من أهل الكتاب.
وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس
"إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل هجر وعليهم المنذر ابن ساوي التميمي يدعوهم إلى الإسلام فإن أبو فليؤدوا الجزية فلما أتاه الكتاب عرضه على من عنده من اليهود والعرب والنصارى والمجوس فأقرّوا بالجزية وكرهوا الإسلام، فكتب إليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أما العرب فلا تقبل منهم إلاّ الإسلام أو السيف، وأما أهل الكتاب والمجوس فاقبل منهم الجزية" . فلما قرأ عليهم كتاب رسول الله عليه السلام أسلمت العرب وأما أهل الكتاب والمجوس أعطوا الجزية، فقال في ذلك: منافقو أهل مكة وقالوا: عجباً من محمد يزعم أن اللّه تعالى بعثه ليقاتل الناس، حتى يقولوا لا إله إلاّ اللّه، وقد قبل من مجوس هجر وأهل الكتاب الجزية، هلاّ أكرههم على الإسلام وقد ردّها على إخواننا من العرب؟
فشقّ ذلك على المسلمين مشقة شديدة فأنزل اللّه تعالى { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } يعني بعد أن بلغ محمد فأحذر، وأنزل بعد ما أسلم العرب
{ { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ } [البقرة: 256].
وقال ابن عباس: نزلت في جميع الكفار وذلك أن الرجل كان إذا أسلم قالوا: سفهت أباك، وضللت، وفعلت وفعلت فأنزل اللّه { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ } وهذه لفظة إغراء، والعرب تغري من الصفات بعليك عليك ولبيك وإليك وعندك ودونك.
ثم قال { إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } الضال والمهتدي { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }.
{ يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } الآية نزلت في ثلاثة نفر خرجوا تجاراً من المدينة إلى الشام، عدي بن فدي، وتميم بن أوس الداري وهما نصرانيان وبديل مولى عمرو بن العاص السهمي وكان مسلماً مهاجراً واختلفوا في كنية أبيه.
فقال الكلبي: بديل بن أبي مازنة. وقال قتادة وابن سيرين وعكرمة: هو ابن أبي مارية، ومحمد بن إسحاق بن يسار وابن أبي مريم، فلما قدموا إلى الشام مرض بديل وكتب كتاباً فيه جميع ما معه وطرحها في متاعه ولم يخبر صاحبه بذلك، فلما إشتد وجعه أوصى إلى تميم وعدي وأمرهما أن يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله، ومات بديل ففتشا متاعه فأخذا منه إناء من فضة منقوشاً بالذهب فيه ثلثمائة مثقال فضة مموّهة بالذهب فغيباه ثم قضيا حاجتهما وانصرفا وقدما المدينة فدفعا المتاع إلى أهل الميت ففتشوا [فوجدوا] الصحيفة فيها تسمية ما كان معه وما فيها الإناء فجاءوا تميماً وعدياً. فقالوا: هل باع صاحبنا شيئاً من متاعه؟ قالا: لا، قالوا: فهل خسر تجارة؟ قالا: لا، قالوا: فهل طال مرضه فأنفق على نفسه؟ قالا: لا. قالوا: فإنا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية ما معه وإنا فقدنا فيها إناء من فضة مموّهة بالذهب فها ثلاثمائة مثقال فضة. قالا: لا ندري إنما أوصى إلينا بشيء وأمرنا أن ندفعه إليكم ودفعناه وما لنا إلاّ من حكم، فرفعوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل اللّه تعالى { يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ ٱثْنَانِ }.
قال أهل الكوفة: معناه ليشهد إثنان لفظ الآية خبر ومعناها أمر. قال أهل البصرة: معناه شهادة بينكم شهادة إثنين فألقيت الشهادة وأقيمت الإثنان مقامهما كقوله
{ { وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [يوسف: 82] أي أهل القرية ما (بقي) أهل وأقام القرية مقامه فنصبها.
وقال بعضهم: معناه شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت أن يشهد إثنان { ذَوَا عَدْلٍ } أمانة وعقل { مِّنْكُمْ } يا معشر المؤمنين من أهل دينكم وملتكم.
قاله جميع المفسرين إلاّ عكرمة وعبيد فإنهما قالا: معناه من حيّ الموصي.
واختلفوا في صفة الإثنين، فقال قوم: هما الشاهدان اللذان يشهدان على وصية الموصي.
وقال آخرون: هما الوصيان أراد الله تأكيد الأمر فجعل الوصي إثنين دليل هذا التأويل أنه عقَّبه بقوله: { تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ ٱلصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ } ولا يلزم الشاهد يمين، ولأن الآية نزلت في الوصيين، وعلى هذا القول تكون الشهادة بمعنى الحضور، كقولك: شهدت فلان أي حضرت، قال اللّه تعالى
{ { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ ٱلْمَوْتُ } [البقرة: 133] الآية، فقال: { { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [النور: 2].
{ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } ملّتكم وهو قول إبن المسيب والنخعي وابن جبير ومجاهد وعبيدة ويحيى بن يعمر وأبي محجن قالوا: إذا لم يجد مسلمين فليشهد كافرين.
قال شريح إذا كان الرجل بأرض غربة فلم يجد مسلماً يشهده على وصيته فليشهد يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً أو عابد وثن وأيّ كافر كان فشهادته جائزة ولا يجوز شهادة الكافرين على المسلمين إلاّ في سفرة ولا يجوز في سفر إلاّ في وصية فإن جاء رجلان مسلمان وشهدا بخلاف شهادتهما أجيزت شهادة المسلمين فأبطلت شهادة الكافرين.
وعن الشعبي: إن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة فأوصى ولم يجد أحداً من المسلمين يشهده على وصيته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد، الذي كان في عهد رسول اللّه فأحلفهما وأمضى شهادتهما.
قال آخرون: معناه من غير حيكم وعشيرتكم. وهذا قول الحسن والزهري وعكرمة قالوا: لا يجوز شهادة كافر في سفر ولا حضر.
{ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ } سرتم وسافرتم في الأرض { فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ } فأوصيتم إليهما ودفعتم مالكم إليهما فلم [يأمنان الإرتياب بحق] الورثة فاتهموهما في ذلك فادّعوا عليهما خيانة، فإن الحكم حينئذ أن تحبسونهما، أي تستوقفونهما { مِن بَعْدِ ٱلصَّلاَةِ } وقال ابن عباس: هذا من صلة قوله { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } من الكفار فأما إذا كانا مسلمين، فلا يمين عليهما، واختلفوا في هذه الصلاة ما هي.
فقال النخعي والشعبي وابن جبير وقتادة: من بعد صلاة العصر. وقال السدي: من بعد صلاة أهل دينهما وملتهما لأنهما لا يباليان صلاة العصر { فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ } فيحلفان { إِنِ ٱرْتَبْتُمْ } شككتم { لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً } يقول لا نحلف باللّه كاذبين على عرض نأخذ عليه [لو أن يكن يذهب إليه في ويجحده] { وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ } ولو كان الذي يقسم له به ذا قربى ذا قرابة معنا { وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ ٱللَّهِ } قرأ الشعبي لا نكتم شهادة اللّه بالتنوين، اللّه بخفض الهاء على الإتصال أراد اللّه على القسم.
وروي عن أبي جعفر (شهادة الله) بقطع الألف وكسر أولها على معنى ولا نكتم شهادة ثم إبتدأ يميناً فقال: اللّه أي واللّه [..........] [يعقب] بتنوين الشهادة، (اللّه) بالألف واللام وكسر الهاء وجعل الإستفهام حرفاً من حروف القسم، فروي عن بعضهم شهادة منونة، اللّه بنصب الهاء يعني ولا نكتم شهادة اللّه أما إن فعلنا ذلك { إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ ٱلآَثِمِينَ } فلما نزلت الآية على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ودعا بعدي وتميم، فاستحلفا عند المنبر باللّه الذي لا إله إلاّ هو أنهما لم يخونا شيئاً مما دفع إليهما فحلف على ذلك وخلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سبيلهما حين حلفا فكتما الإناء ما شاء اللّه أن يكتما ثمّ ظهر واختلفوا في كيفية ظهور الإناء.
فروى ابن جبير عن ابن عباس إن الإناء وجد بمكة فقالوا: اشتريناه من عدي وتميم.
قال الآخرون: لما طالت المدة اظهر الإناء وبلغ ذلك بني تميم فأتوهما في ذلك. فقالا: إنا كنّا قد اشترينا منهم هذا وقالوا: ألم تزعما بأن صاحبنا لم يبع شيئاً من متاعه؟ قالا: لم يكن عندنا ثمنه فكرهنا أن نقر لكم به [فكتمناكموه] لذلك فرفعوهما لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأنزل اللّه { فَإِنْ عُثِرَ } أي أطلع وظهر وأصل العثر الوقوع والسقوط على الشيء ومنه قوله: عثرت بكذا إذا أصبته وصدمته ووقعت عليه.
قال الأعمش:

بذات لوث عفرناة إذا عثرتفالتعس أدنى لها من أن أقول لعا

يعنى بقوله: عثرت أصاب ميم خفها مجر أو غيره، ثمّ يستعمل في كل واقع على شيء كان عنه خفياً كقولهم في أمثالهم: عثرت على الغزل بأخرة فلم تدع بنجد قردة.
{ عَلَىٰ أَنَّهُمَا } يعني الوصيين { ٱسْتَحَقَّآ إِثْماً } أي استوجبا إثماً بأيمانهما الكاذبة وخيانتهما { فَآخَرَانِ } من أولياء الميت { يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا } يعني مقام الوصيين { مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَحَقَّ }.
قرأ الحسن وحفص بفتح التاء وهي قراءة علي وأُبي بن كعب أي وجب عليهم الإثم يقال حق واستحق بمعنى وقال: { ٱلأَوْلَيَانِ } رجع إلى قوله: فآخران الأوليان ولم يرتفع بالإستحقاق.
وقرأ الباقون: بضم التاء على المجهول يعني الذين استحق فيهم ولأجلهم الإثم وهم ورثة الميت، إستحق الحالفان بسببهم وفيهم الإثم على المعنى في كقوله:
{ { عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ } [البقرة: 102].
وقال صخر الغي:

متى ما تنكروها تعرفوهاعلى أقطارها علق نفيث

{ ٱلأَوْلَيَانِ } بالجمع قرأه أكثر أهل الكوفة واختيار يعقوب أي من الذين الأولين.
وقرأ الحسن: الأولون، وقرأ الآخرون الأوليان على لغة الآخرين وإنما جاز ذلك، الأولان معرفة والآخران بكثرة لأنه حين قال من الذين وحدهما ووصفهما صار كالمعرفة في المعنى.
{ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ لَشَهَادَتُنَا } أي واللّه لشهادتنا { أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا } يعني يميننا أحق من يمينهما. نظيره قوله
{ { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ } [النور: 6] في قصة اللعان أراد الأيمان، وهذا كقول القائل: أشهد باللّه وله أقسم { وَمَا ٱعْتَدَيْنَآ } في يميننا { إِنَّا إِذاً لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ } فلما نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص والمطلب بن وداعة السهميان حلفا باللّه بعد العصر مرّة فدفع الجام إليهما وإلى أولياء الميت، وكان تميم الداري بعد ما أسلم وبايع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: صدق اللّه عز قوله أنا أخذت الجام فأتوب إلى اللّه وأستغفره.
وإنما إنتقل اليمين إلى الأوليان، لأن الوصيين صح عليهما الإناء ثم ادعيا أنهما ابتاعاه، وكذلك إذا ادعى الوصي أن الموصي أوصى له بشيء ولم يكن ثم بينة، وكذلك إذا ادعى رجل قبل رجل مالا فأقرّ المدعي عليه بذلك ثم ادعى أنه اشتراها من المدعي أو وهبها له المدعي، فإن في هذه المسائل واشتباهها يحكم برد اليمين على المدعي.
روى محمد بن إسحاق عن أبي النضير عن باذان مولى أم هاني عن ابن عباس عن تميم الداري، قال: بعنا الجام بألف درهم فقسمناه أنا وعدي فلما أسلمت تأثمت من ذلك بعد ما حلفت كاذباً وأتيت موالي الميت فأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فوثبوا إليه فأتوا به إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا. فأمر الموالي أن يحلفوا فحلف عمرو والمطلب فنزعت الخمسمائة من عدي ورددت أنا الخمسمائة فذلك قوله { ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يَأْتُواْ بِٱلشَّهَادَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَآ } أي ذلك أجدر وأحرى أن يأتي الوصيان بالشهادة على وجهها وسائر الناس أمثالهم إذا خافوا ردّ اليمين وإلزامهم الحق.
{ وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ وَٱسْمَعُواْ } الآية. واختلفوا في حكم الآية. فقال بعضهم: هي منسوخة وروى ذلك ابن عباس. وقال الآخرون: هي محكمة وهي الصواب { يَوْمَ } أي إذكروا واحذروا يوم { يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ } وهو يوم القيامة { فَيَقُولُ } لهم { مَاذَآ أُجِبْتُمْ } أي ما الذي أجابتكم أمتكم وما الذي ردّ عليكم قومكم حين دعوتموهم إلى توحيدي وطاعتي { قَالُواْ } أي فيقولون { لاَ عِلْمَ لَنَآ } قال ابن عباس: لا علم لنا إلاّ علم أنت أعلم به منا.
وقال ابن جريح: معنى قوله { مَاذَآ أُجِبْتُمْ } أي ما حملوا ويصدقوا بعدكم فيقولوا: لا علم لنا.
الحسن ومجاهد، السدي ممن يقول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب، ثم يحتسبون بعدما تثوب إليهم عقولهم بالشهادة على أمتهم.