التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوۤاْ أَوْ يُصَلَّبُوۤاْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ٱلأَرْضِ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
٣٣
إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٣٤
يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبْتَغُوۤاْ إِلَيهِ ٱلْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
٣٥
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٣٦
يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ ٱلنَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ
٣٧
وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٣٨
فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٣٩
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٤٠
-المائدة

الكشف والبيان

{ إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } الآية.
قال الضحاك: نزلت في قوم من أهل الكتاب، كان بينهم وبين رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض.
الكلبي: نزلت في قوم هلال بن عويمر وذلك أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وادع هلال بن عويمر وهو أبو بردة الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه ومن أتاه من المسلمين لم يهجّ.
قال: فمرّ قوم من بني كنانة يريدون الإسلام. بناس من قوم هلال ولم يكن هلال يومئذ شاهداً فانهدّوا إليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم فبلغ ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فنزل جبرئيل (عليه السلام) بالقضية فيهم.
وقال سعيد بن جبير:
"نزلت في ناس من عرينة وغطفان أتوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وهم كَذَبة وليس الإسلام يريدون. ثم قالوا: إنا نجتوي المدينة لأن أجوافنا انتفخت، والواننا قد اصفرّت فقال النبي صلى الله عليه وسلم أُخرجوا إلى لقاحنا واشربوا أبوالها وألبانها فذهبوا وقتلوا الرعاة واستاقوا الإبل. وارتدّوا عن الإسلام فنودي في الناس: يا خيل اللّه اركبي فركبوا لا ينتظر فارس فارساً فخرجوا في طلبهم فجيء بهم. فأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم بالحرّ حتى ماتوا" ، ثم اختلفوا في حكم الآيتين. فقال بعضهم: هي منسوخة لأن المثلة لا تجوز وشرب بول الإبل لا يجوز.
وقال آخرون: حكمه ثابت إلاّ السمل والمثلة. قال الليث بن سعد: نزلت هذه الآية معاتبة لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم وتعليماً منه إيّاه عقوبتهم فقال: "إنما جزاؤهم هذا" أي المثلة.
ولذلك ما قام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خطيباً إلاّ نهى عن المثلة، واختلفوا في المحارب الذي يستحق هذا الحد.
فقال بعضهم: واللص الذي يقطع الطريق والمكابر في الأمصار والذي يحمل السلاح على المسلمين ويقصدهم في أي موضع كان حتى كان بالغيلة. وهو الرجل يخدع الرجل والمرأة والصبي فيدخله بيتاً ويخونوا به فيقتله ويأخذ أمواله وهذا قول الأوزاعي ومالك والليث بن سعد وعبد اللّه بن لهيعة والشافعي. وقال بعضهم: فهو قاطع الطريق، وأما المكابر فليس بالمحارب وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه { وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً } بالفساد أي بالزنا والقتل وإهلاك الحرث والنسل { أَن يُقَتَّلُوۤاْ أَوْ يُصَلَّبُوۤاْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ } إختلفوا في حكم الآية.
فقال قوم: الإمام فيهم بالخيار فأي شيء من هذه الأشياء شاء فعل. وهو قول الحسن وسعد بن المسيب والنخعي ومجاهد ورواية الوالبي عن ابن عباس.
واحتجّوا بقوله تعالى
{ { فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } [البقرة: 196] وبقوله تعالى في كفّارة اليمين { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } [المائدة: 89] الآية.
وقال آخرون: هذا حكم مختلف باختلاف الجناية، فإن قتل قُتل، وإن قتل وأخذ المال قتل وصلب، وإن أخذ المال ولم يقتل قطع، وإن أخاف السبيل ولم يقتل وأخذ المال نفي. وهذا قول سعيد بن جبير، وقتادة، والسدّي، والنخعي والربيع. ورواية العوفي عن ابن عباس.
فاختلف العلماء في معنى النفي، فقال ابن عباس: هو حكم من أعجز فإذا أعجزك أن تدركه وخرج من لقيه، قتله.
وقال آخرون: والمقبوض عليه ثم اختلفوا في معناه، فقال طائفة: هو أن ينفى من بلدته إلى بلدة أخرى غيرها وهو قول سعيد بن جبير، وعمر بن عبد العزيز. وإليه ذهب الشافعي.
وقال الآخرون والحسن، وهو مذهب أبي حنيفة، وقال محمد بن الحسن: هو نفيه من بلده إلى غيره وحبسه في السجن في البلد الذي نُفي إليه حتى يظهر توبته وهو المختار يدل عليه ما روى ابن وهب عن أبي صيعة عن يزيد بن أبي حبيب، أن حبان بن شريح كتب إلى عمر بن عبد العزيز: إن ناساً من القبط قامت عليهم البيّنة بأنهم حاربوا اللّه ورسوله وسعوا في الأرض فساداً وأن اللّه يقول { مِّنْ خِلافٍ }. وسكت عن النفي فإن رأى أمير المؤمنين أن يمضي قضاء اللّه فيهم فليكتب بذلك فلمّا قرأ عمر كتابه، قال: لقد إجترأ حبّان، ثم كتب: إنه بلغني كتابك وفهمت ولقد اجترأت حين كتبت بأوّل الآية وسكتّ عن آخرها تريد أن تجترىء للقتل والصلب فإنك عبد بني عقيل يعني الحجاج فإن اللّه يقول { أَوْ يُنفَوْاْ } آخر الآية، فإن كانت قامت عليهم البيّنة فاعقد في أعناقهم حديداً فأنفهم إلى شعب وبدا وأصل النفي الطرد.
وقال أوس بن حجر:

ينفون عن طرق الكرام كماينفى المطارق ما يلي القردا

أي ما يليه القرد وهو الصوف الرديء. ومنه قيل: الدراهم الرديئة نفاية ولما تطاير من الماء عن الدلو نفي.
قال الراجز:

كأن متنيه من النفيمواقع الطير على الصفي

{ ذٰلِكَ } الذي ذكرتم من الحد لهم { خِزْيٌ } عذاب وهوان { فِي ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ثم قال { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ }.
قال أكثر العلماء: إلاّ الذين تابوا من شركهم وحربهم وفسادهم وآمنوا وأصلحوا من قبل القدرة عليهم فإنه لا سبيل عليهم بشيء من الحدود التي ذكرها اللّه في هذه والآية لأحد قبله فيما أصاب في حال كفره لا في مال ولا في دم ولا حرمة، هذا حكم المشركين والمحاربين.
فأما المسلمون المحاربون فاختلفوا فيهم.
فقال بعضهم: سقط عنه بتوبته من قبل أن يقدر عليه حدّ اللّه ولا يسقط عنه بها حقوق بني آدم وهو قول الشافعي.
وقال بعضهم: يسقط عنهم جميع ذلك ولا يؤخذ شيء من أمواله الاّ أن يوجد عنده مال بعينه فيرده إلى صاحبه ويطلبه وليّ دم بدم يقوم عليه البينة فيه فيقاد به، وأما الدماء والأموال التي أصابها ولم يطلبها أولياؤه فلا يتبعه الإمام، على هذا قول مالك، والأوازعي والليث بن سعد.
وقال بعضهم: إذا استأمن من وصايانا من قبل أن يقدم عليه قبل اللّه توبته ولا يؤخذ بشيء من جناياته التي سلفت فلا يكون لأحد قبله معه في دم ولا مال.
وهذا قول السدّي يدل عليه. وروى الشعبي أنّ حارثة بن يزيد خرج محارباً في عهد علي ابن أبي طالب (رضي الله عنه) فأخاف السبل وسفك الدّماء وأخذ الأموال ثم جاء تائباً من قبل أن يقدر عليه فأتى الحسن بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) فطلب إليه أن يستأمن له فأتى ابن جعفر فأتى عليه فأتى سعيد بن قيس الهمدالي فقبّله وضمّه إليه فلمّا صلّى علي (رضي الله عنه) الغداة أتاه سعيد بن قيس. فقال: يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله؟ قال: أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض قال: ما تقول فيمن تاب قبل أن تقدر عليه فقال أقول: كما قال اللّه عز وجل { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } الآية.
فقال سعيد: وإن كان حارثة بن بدر، قال: نعم فجاء إليه فبايعه وآمنه وكتب له أماناً منشوراً.
فقال حارثة:

ألا أبلغا همدان إما لقيتهاعلى النأي لا يسلم عدوٌ يعيبها
لعمر أبيها إن همدان تتقي إلاله ويقضي بالكتاب خطيبها

قال الشعبي: جاء رجل من مراد إلى أبي موسى وهو على الكوفة في أمارة عثمان بن عفّان (رضي الله عنه) بعد ما صلّى المكتوبة فقال: يا أبا موسى هذا مقام العائذ بك أنا فلان بن فلان المهدي وأني كنت حاربت اللّه ورسوله وسعيت في الأرض وإني تبت من قبل أن يقدر عليّ، فقام أبو موسى فقال: إن هذا فلان بن فلان وإنه كان يحارب اللّه ورسوله وسعى في الأرض بفساد فإنه تاب من قبل أن يقدر عليه فمن لقيه فلا يعرضن إلاّ بخير فإن يك صادقاً فسبيله سبيل من صدق. وإن يك كاذباً تدركه ذنوبه، فأقام الرجل فاستأذن وإنه خرج فأدركه اللّه بذنوبه فقتله.
وروى الليث بن سعيد عن محمد بن إسحاق أن علياً الأسدي حارب وأخاف السبيل وأصاب الدم والمال فطلبته الأئمّة والعامّة فامتنع ولم يقدر عليه حتى جاء تائباً وذلك أنّه سمع رجلاً يقرأ هذه الآية
{ { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ } [الزمر: 53] الآية فوقف عليه، فقال: يا عبد اللّه أعد فأعادها عليه فغمد سيفه ثم جاء تائباً حتى قدم المدينة من السَحر ثم اغتسل وأتى مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فصلّى الصبح ثم مضى إلى أبي هريرة وهو في غمار أصحابه فلما استغفر عرفه الناس فقاموا إليه، فقال: لا سبيل لكم عليّ جئت تائباً من قبل أن تقدروا عليَّ.
فقال أبو هريرة: صدق، وأخذ بيده حتى أتى مروان بن الحكم في إمرته على المدينة في زمن معاوية، فقال: هذا عليّ جاء تائباً ولا سبيل لكم عليه فترك، وخرج عليّ تائباً مجاهداً في سبيل اللّه في البحر فلقوا الروم فقربوا سفينة إلى سفينته من سفنهم فاقتحم على الروم في سفينتهم فهربوا إلى شقها الآخر فمالت ثم أوقعهم فغرقوا جميعاً.
{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبْتَغُوۤاْ إِلَيهِ ٱلْوَسِيلَةَ } واطلبوا إليه القربة وهي [في الأصل ما يتوصّل به إلى الشيء ويتقرّب به، يقال: وسل إليه وسيلة وتوسّل]، وجمعها وسائل.
قال الشاعر:

إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا وعاد التصافي بيننا والوسائل

قال عطاء: الوسيلة أفضل درجات الجنة. وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "الوسيلة أفضل درجات الجنة" . وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "سلوا الله لي الوسيلة فإنها أفضل درجة في الجنة لا ينالها إلاّ عبد واحد وأرجوا أن أكون أنا هو" .
وروى سعيد بن طريف عن الأصمعي عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: "في الجنة لؤلؤتان إلى بطنان العرش إحداهما بيضاء والأخرى صفراء في كل واحد منهما سبعون ألف غرفة أبوابها وأكوابها من عرق واحد فالبيضاء واسمها الوسيلة لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته والصفراء لإبراهيم (عليه السلام) وأهل بيته".
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"يقال للكافر يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبٌ تفتدى به فيقول: نعم، فيقال: قد سألت أيسر من ذلك" .
{ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ ٱلنَّارِ } قرأه العامة بفتح الياء كقوله { وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } قائم.
وقرأ أبو واقدة، والجرّاح يخرجوا بضمّ الياء كقوله
{ { رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } [المؤمنون: 107] { { وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ } [الحجر: 48] { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } الآية. نزلت في طعمة بن الأبرق سارق الدرع وقد مرّت قصته في سورة النساء.
والسبب في وجه رفعهما. فقال بعضهم: هو رفع بالإبتداء، وخبره فيما بعد. وقال بعضهم: هو على معنى الجزاء، تقديره من سرق فاقطعوا أيديهما الآية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة. ولو أراد سارقاً وزانياً بعينهما لكان وجه الكلام النصب.
وقال الأخفش: هو الرفع على الخبر وابتداء مضمر كأنه قال: مما يقص عليك ويوحى إليك والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما.
وقال أبو عبيدة: هو رفع على لغة [....] من رفع [....] فيقول: الصيد [غارمه]، والهلال فانظر إليه، يعني أمكنك الصيد غارمه، وطلع الهلال فانظر إليه.
وقرأ عيسى بن عمرو: والسارق والسارقة منصوبين على إضمار إقطعوا السارق والسارقة.
ودليل الرفع قراءة عبد اللّه، والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم ومستثناً في هذا السارق الذي عناه اللّه عز وجل بقطع يده وفي القدر الذي يقطع به يد السارق.
فقال قوم: يقطع إذا سرق عشر دراهم فصاعداً، ولا يقطع فيما دون ذلك.
وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه واحتجوا بما روى عطاء ومجاهد عن أيمن بن أم أيمن قال: يقطع السارق في ثمن المجن وكان ثمن المجن على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ديناراً أو عشرة دراهم.
وروى أيّوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال: كان ثمن المجن على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم.
وروى عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء قال: أدنى قيمة عن المجن هو ثمن المجن عشرة دراهم.
قال سليمان بن يسار: لا يقطع الخمس إلاّ بالخمس.
واستدل بما روى سفيان عن عبد اللّه
"أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في قيمة خمسة دراهم" .
وروى سفيان عن عيسى عن الشعبي عن عبد الله "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قطع في خمسة دراهم" .
وروى شعبة عن داود بن (فراهج) قال: سمعت أبا هريرة وأبا سعيد الخدري قالا: تقطع الكف في أربعة دراهم فصاعداً، ولا تقطع في ثلاثة دراهم فصاعداً.
واحتج بما روى عن نافع عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قطع سارقاً في مجن ثمنه ثلاثة دراهم فقال: بعضهم يقطع في ربع دينار فصاعداً، وهو قول الأوزاعي، والشافعي وإسحاق الحنظلي وأبو ثور. واحتجوا بما روى سفيان عن الزهري عن حمزة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"يقطع في ربع دينار فصاعداً" .
وروى أبو بكر بن محمد عن عمر عن عائشة قالت: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقطع يد السارق إلاّ في ربع دينار فصاعداً" .
وقال بعضهم: يقطع سارق القليل والكثير، ولو سرق دانق، وهو قول ابن عباس، قال: لأن الآية عامّة ليس خاصّة.
وقول الزبير: يروى أنه يقطع في درهم وحجّة هذا المذهب ما روى عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:
"لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده" .
وروى ثوبان "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بسارق سرق شملة قال: أسرقت؟ ما أخالك سرقت؟ قال: نعم. قال: إذهبوا به فاقطعوه. ثم اتوني به، ففعل فقال: ويحك تُب إلى اللّه.
فقال: اللّهم تُب عليه"
، ثم اختلفوا في كيفيّة القطع: فقال عمرو بن دينار: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقطع اليد من الكوع وكان يقطع من المفصل وكان علي يقطع الكف من الأصابع والرجل من شطر القدم.
فإذا قطع ثم عاد إلى السرقة فهل يقطع أم لا؟ قال أهل الكوفة: لا تقطع واحتجّوا بحديث عبد خير، قال: أتى علي سارق فقطع يده ثم أتى وقطع رجله ثم أتى فضربه وحبسه وقال: إني لأستحي أن لا أدع له يداً يستنجي بها ولا رجلاً يمشي بها. وقال أهل الحجاز: يقطع، وكان قد إحتجوا في ذلك بقوله تعالى { فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } على الإجماع.
ويروي حماد بن سلمة عن يوسف بن سعد عن الحرث بن حاطب
"أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أُتي بلصّ فقال: أُقتلوه فقال: يا رسول اللّه إنما سرق، قال: أُقتلوه قالوا: يا رسول اللّه إنما سرق، قال: إقطعوا يده. قال: ثم سرق فقطعت رجله ثم سرق على عهد أبي بكر حتى قطعت قوائمه كلها ثم سرق أيضاً الخامسة فقال أبو بكر: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أعلم بهذا حين قال اقتلوه، ثم دفعوه إلى قبيلة من قريش ليقتلوه في عهد عبد اللّه بن الزبير وكان يحب الإمارة فقال: أمّروني عليكم فأمّروا عليه فكان إذا ضرب ضربوا حتى قتلوه" ، ثم إذا قطع السارق فهل يغرم السرقة أم لا؟ فقال سفيان وأهل الكوفة: إذا قطع السارق فلا يغرم عليه إلاّ أن يعيد المسروق فيعيدها إلى صاحبها.
وروى المسوّر بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال:
"لا يغرم صاحب السرقة إذا أُقيم عليه الحد" قيل: هذا حديث مرسل أنس بن ثابت، وقال الزهري ومالك: إذا كان السارق موسراً غُرّم.
وقال الشافعي: ثم يغرّم قيمة السرقة معسراً كان أو موسراً.
{ جَزَآءً بِمَا كَسَبَا }.نصب جزاء على الحال والقطع قاله الكسائي. وقال قطرب: على المصدر ومثله { نَكَالاً } أي عقوبة { مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }.
عن جعفر بن محمد قال: سمعت أبي يقول: ما سرق سارق سرقة إلاّ نقص من رزقه المكتوب له { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ } أي سرقته، نظيره في سورة يوسف
{ { كَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ } [يوسف: 75] أي السارقين { وَأَصْلَحَ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ } هذا ما بينه وبين اللّه تعالى فأما القطع فواجب. يدل عليه ما روى يحيى بن عبدالله عن أبي عبد الرحمن الحنبلي عن عبد اللّه بن عمرو: "إنّ امرأة سرقت على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فجاء بها الذين سرقتهم. فقالوا: يا رسول اللّه إن هذه المرأة سرقتنا، قال قومها: فنحن نفديها بخمس مائة دينار، فقال رسول اللّه: إقطعوا يدها فقطعت يدها اليمنى، فقالت المرأة هل لي من توبة؟
قال: نعم أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك"
. فأنزل اللّه في سورة المائدة { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ } الآية.
معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت:
"كانت إمرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها فأتى أهلها أسامة فكلمته وكلم أسامة النبي صلى الله عليه وسلم فيها فقال له النبي: يا أسامة لا أزال تكلمني في حدّ من حدود اللّه ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال: إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيه الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطّعوه والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" .
قال: فقطع يد المخزومية، وكان الشعبي وعطاء يقولان: إذا ردّ السرقة قبل أن يقدر عليه لم يقطع لقوله { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } الآية { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ }.
قال السدّي والكلبي: يعذب من يشاء منهم من مات على كفره ويغفر لمن يشاء من تاب من كفره.
وقال الضحّاك: يعذب من يشاء على الصغير إذا قام عليه ويغفر لمن يشاء على الكبير إذا نزع عنه { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.