التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ
١٦
إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ
١٧
مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ
١٨
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ
١٩
وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْوَعِيدِ
٢٠
وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ
٢١
لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ
٢٢

الكشف والبيان

{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } يحدّثه قلبه، فلا يخفى علينا أسراره، وضمائره { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ } أي أعلم به، وأقدر عليه { مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } لأنّ أبعاضه، وأجزاءه يحجب بعضها بعضاً، ولا يحجب علم الله سبحانه عن جميع ذلك شيء، وحبل الوريد: عرق العنق، وهو عرق بين الحلقوم، والعلباوين، وجمعه أوردة، والحبل من الوريد وأُضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين، قال الشاعر:

فقرت للفجار فجاء سعياًإذا ما جاش وانتفخ الوريد

{ إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَانِ } أي يتلقّى، ويأخذ الملكان الموكلان عليك، وكَّل الله سبحانه بالإنسان مع علمه بأحواله، ملكين بالليل، وملكين بالنهار يحفظان عمله، ويكتبان أثره، إلزاماً للحجّة، أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات، والآخر عن شماله يكتب السيّئات، فذلك قوله سبحانه: { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ } ولم يقل: قعيدان. قال أهل البصرة: لأنّه أراد عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد، فاكتفى بأحدهما عن الآخر، كقول الشاعر:

نحن بما عندنا وأنت بما عندكراض والرأي مختلف

وقول الفرزدق:

إنّي ضمنت لمن أتاني ما جنىوأبى فكان وكنت غير غدور

ولم يقل: غدورين، والقعيد، والقاعد كالسميع، والعليم، والقدير، فقال أهل الكوفة: أراد قعوداً رده إلى الجنس، فوضع الواحد موضع الجمع، كالرسول في الاثنين يجعل للاثنين، والجمع، قال الله سبحانه في الاثنين: { { إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الشعراء: 16] وقال الشاعر:

ألكني إليها وخير الرسول أعلمهم بنواحي الخبر

أخبرنا الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن سالم الختلي. قال: حدّثنا أحمد بن أيّوب الرخاني. قال: حدّثنا جميل بن الحسن، قال: حدّثنا أرطأة بن الأشعث العدوي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنّ مقعد ملكيك على ثنيتيك، ولسانك قلمهما، وريقك مدادهما، وأنت تجري أظنّه قال: فيما لا يعنيك لا تستحي من الله، ولا منهما" .
وأخبرنا الحسين بن محمد بن منجويه الدينوري، قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان، قال: حدّثنا الفضل بن العبّاس بن مهران. قال: حدّثنا طالوت. قال: حدّثنا حمّاد بن سلمة. قال: أخبرنا جعفر بن الزبير، عن القاسم بن محمد، عن أبي أُمامة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "كاتب الحسنات على يمين الرجل، وكاتب السيّئات على يسار الرجل، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيّئات، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشراً، وإذا عمل سيئة، قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات لعلّه يسبِّح أو يستغفر" .
قال الحسن: إنّ الملائكة يجتنبون الإنسان على حالين: عند غائطه، وعند جماعه، وقال أبو الجوزاء، ومجاهد: يكتبان عليه كلّ شيء حتّى أنينه في مرضه، وقال عكرمة: لا يكتبان عليه إلاّ ما يؤجر عليه أو يؤزر فيه، وقال الضحّاك: مجلسهما تحت الشعر على الحنك. ومثله روى عوف عن الحسن، قال: وكان الحسن يعجبه أن ينظف عنفقته.
وقال عطية ومجاهد: القعيد الرصيد.
أخبرنا أبو القاسم بن حبيب في سنة ست وثمانين وثلاثمائة، قال: حدّثنا أبو محمد البلاذري. قال: حدّثنا محمد بن أيّوب الرازي. قال: حدّثنا أبو التقى هشام بن عبد الملك. قال: حدّثنا مبشر بن إسماعيل الحلبي، عن تمام بن نجيح، عن الحسن، عن أبي هريرة، وأنس، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"ما من حافظين يرفعان إلى الله سبحانه ما حفظا فيرى الله سبحانه في أوّل الصحيفة خيراً، وفي آخرها خيراً، إلاّ قال لملائكته: اشهدوا أنّي قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة" .
وأخبرنا أبو سهل بن حبيب بقراءتي عليه، قال: حدّثنا أبو بكر أحمد بن موسى، قال: حدّثنا زنجويه بن محمد. قال: حدّثنا إسماعيل بن قتيبة. قال: حدّثنا يحيى بن يحيى. قال: حدّثنا عثمان بن مطر الشيباني، عن ثابت عن أنس. أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بأنّ الله سبحانه وكّل بعبده المؤمن ملكين يكتبان عمله، فإذا مات، قال الملكان اللّذان وكّلا به يكتبان عمله: قد مات فلان، فيأذن لنا، فنصعد إلى السماء، فيقول الله سبحانه: سمائي مملوءة من ملائكتي يسبِّحون، فيقولان: نقيم في الأرض. فيقول الله سبحانه: أرضي مملوءة من خلقي يسبِّحون. فيقولان: فأين؟ فيقول: قوما على قبر عبدي. فكبّراني، وهللاني، واكتبا ذلك لعبدي ليوم القيامة" .
{ مَّا يَلْفِظُ } يتكلّم. { مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ } عنده { رَقِيبٌ } حافظ { عَتِيدٌ } حاضر، وهو بمعنى المعتد من قوله: { اعتدنا } والعرب تعاقب بين (التاء) و(الذال) لقرب مخرجهما، فيقول: اعتددت، وأعذدت، وهرذ، وهرت، وكبذ، وكبت، ونحوهما، قال الشاعر:

لئن كنت مني في العيان مغيباًفذكرك عندي في الفؤاد عتيد

{ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ } أي وجاءت سكرة الحقّ بالموت؛ لأنّ السكرة هي الحقّ، فأضيفت إلى نفسه لاختلاف الإسمين وقيل: الحقّ هو الله عزّ وجلّ، مجازه وجاء سكرة أمر الله بالموت. أنبأني عقيل، قال: أخبرنا المعافى، قال: أخبرنا جوير. قال: حدّثنا ابن المثنى، قال: حدّثنا محمد بن جعفر، قال: حدّثنا شعبة، عن واصل، عن أبي وائل قال: لما كان أبو بكر يقضي، قالت عائشة:

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتىإذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

فقال أبو بكر: يا بنية لا هو لي، ولكنّه كما قال الله سبحانه: { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } أي تكره، عن ابن عبّاس، وقال الحسن: تهرب. الضحّاك: تروغ. عطاء الخراساني: تميل. مقاتل بن حيان: تنكص. وأصل الحيد الميل، يقال: حدت عن الشيء أحيد حيداً، ومحيداً إذا ملت عنه. قال طرفة:

أبا منذر رمت الوفاء فهبتهوحدت كما حاد البعير عن الدحض

{ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ } يعني نفخة البعث. { ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْوَعِيدِ } الذي وعده الله سبحانه للكفّار يلعنهم فيه. { وَجَآءَتْ } ذلك اليوم { كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ } يسوقها إلى المحشر { وَشَهِيدٌ } شهد عليه بما عملت في الدّنيا من خير أو شرّ. وروي أنّ عثمان بن عفّان خطب، وقرأ هذه الآية، فقال: السائق يسوقها إلى الله سبحانه، والشاهد يشهد عليه بما عملت، وقال الضحّاك: السائق الملائكة، والشاهد من أنفسهم الأيدي، والأرجل. وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس، وقال أبو هريرة: السائق الملك، والشهيد العمل، وقال الباقون: هما جميعاً من الملائكة، فيقول الله سبحانه لها: { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ } ورفعنا عنك عماك، وخلّينا عنك سترك، حتّى عاينته. { فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } قوي، نافذ، ثابت، ترى ما كان محجوباً عنك. وروى عبدالوهاب، عن مجاهد، عن أبيه { فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } قال: نظرك إليّ لبيان ميزانك حين توزن حسناتك، وسيّئاتك.
وقيل: أراد بالبصر العلم، علِمَ حين لم ينفعه العلم، وأبصر حين لم ينفعه البصر. وقرأ عاصم الجحدري { لَّقَدْ كُنتَ } بكسر (التاء)، وبكسر (الكاف)، رد الكتابة إلى النفس. { وَقَالَ قَرِينُهُ } الملك الموكّل به { هَـٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } معد محفوظ محضر، قال مجاهد: هذا الذي وكّلني به من بني آدم، قد أحضرته، وأحضرت ديوان أعماله، فيقول الله سبحانه لقرينه: { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ } قال الخليل، والأخفش: هذا كلام العرب الصحيح أن يخاطب الواحد بلفظ الاثنين، وهو جيد حسن، فيقول: ويلك أرحلاها، وازجراها، وخذاه واطلقاه للواحد. قال الفراء: وأصل ذلك إذا دنا أعوان الرجل في إبله، وغنمه، وبقره، اثنان، فجرى كلام الواحد على صاحبيه، ومنه قولهم للواحد في الشعر: خليلي (ثم يقول: يا صاح). قال امرؤ القيس:

خليلي مُرّا بي على أُمّ جندبنقض لبانات الفؤاد المعذّب

وقال:

قِفا نبك عن ذكرى حبيب ومنزل

وقال: قفا نبك من ذكرى حبيب وعروان.
قال الآخر:

فقلت لصاحبي لا تعجلانابنزع أصوله واجتز شيحا

وأنشد أبو ثروان:

فإن تزجرني يابن عفان أنزجروإن تدعاني أحم عرضا ممنعا

وقيل: يشبه أن يكون عني به تكرار القول فيه، فكأنّه يقول: إلق إلق، فناب ألقيا مناب التكرار، ويجوز أن تكون ألقيا تثنية على الحقيقة، ويكون الخطاب للمتلقيين معاً أو السائق والشاهد جميعاً، وقرأ الحسن (ألقينْ) بنون التأكيد الخفيفة، كقوله: { { لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن ٱلصَّاغِرِينَ } [يوسف: 32] { كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ } عاص معرض عن الحقّ، قال مجاهد وعكرمة: مجانب للحقّ معاند لله.
{ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ } أي للزكاة المفروضة، وكلّ حقّ واجب في ماله.
{ مُعْتَدٍ } ظالم. { مُّرِيبٍ } مشكّك، وقال قتادة: شاك ومعناه: إنّه داخل في الريب { ٱلَّذِي جَعَلَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلشَّدِيدِ } وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة، فأراد بقوله: { مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ } أنّه كان يمنع بني أخيه عن الإسلام، ويقول: لئن دخل أحدكم في دين محمّد لا أنفعه بخير ما عشت.