{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ } قال ابن عبّاس: أثروا. مجاهد: ضربوا. الضحّاك: طافوا. النضر بن شميل: دوحوا. الفرّاء: خرقوا. المؤرخ: تباعدوا. ومنه قول امرئ القيس:
لقد نقبّت في الأفاق حتّىرضيت من الغنيمة بالإيابِ
وقرأ الحسن فنقّبوا بفتح القاف مخفّفة. وقرأ السلمي ويحيى بن معمر بكسر القاف مشدّداً على التهديد والوعيد أي طوّفوا في البلاد، وسيروا في الأرض، فانظروا { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } من الموت وأمر الله سبحانه.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي في القرى التي أهلكت والعِبر التي ذكرت { لَذِكْرَىٰ } التذكرة { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } أي عقل، فكنّي عن العقل بالقلب لأنّه موضعه ومتبعه. قال قتادة: لمن كان له قلب حيّ، نظيره { { لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً } [يس: 70]، وقال الشبلي: قلب حاضر مع الله لا يغفل عنه طرفة عين، وقال يحيى بن معاذ: القلب قلبان: قلب قد احتشى بأشغال الدنيا حتى إذا حضر أمر من أمور الآخرة لم يدر ما يصنع من شغل قلبه بالدنيا. وقلب قد احتشى بأهوال الآخرة، حتّى إذا حضر أمر من أمور الدنيا لم يدر ما يصنع لذهاب قلبه في الآخرة. وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سألت أبا الحسن علي بن عبد الرّحمن العباد عن هذه الآية، فقال: معناها إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب مستقرّ لا يتقلّب عن الله في السراء والضراء.
{ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ } أي استمع القرآن، يقول العرب: ألقِ إليَّ سمعك أي استمعْ، وقال الحسين بن الفضل: يعني وجه سامعه وحولها إلى الذكر كما يقال اتبعي إليه.
{ وَهُوَ شَهِيدٌ } أي حاضر القلب، وقال قتادة: وهو شاهد على ما يقرأ ويسمع في كتاب الله سبحانه من حبّ محمّد صلى الله عليه وسلم وذكره. { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } إعياء وتعب.
نزلت في اليهود حيث قالوا: يا محمد أخبرنا ما خلق الله تعالى من الخلق في هذه الأيّام الستّة؟
فقال صلى الله عليه وسلم "خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد والاثنين، والجبال يوم الثلاثاء والمدائن والأنهار والأقوات يوم الأربعاء، والسماوات والملائكة يوم الخميس، إلى ثلاث ساعات من يوم الجمعة وخلق في أوّل الثلاث ساعات الآجال، وفي الثانية الآفة، وفي الثالثة آدم" .
قال: قالوا: صدقت إن أتممت. فقال: وما ذاك؟ فقالوا: ثمّ استراح يوم السبت واستلقى على العرش فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
{ فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ } فإنّ الله سبحانه لهم بالمرصاد، { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } يعني قل: سبحان الله والحمد لله. عن عطاء الخراساني، وقال الآخرون: وصلّ بأمر ربّك وتوفيقه، { قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ } يعني صلاة الصبح، { وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ } صلاة العصر، وروي عن ابن عباس، { وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ }: يعني الظهر والعصر، { وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ } يعني صلاة العشائين، وقال مجاهد: من الليل كلّه، يعني: صلاة الليل، في أي وقت صلّى، { وَأَدْبَارَ ٱلسُّجُودِ } قال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبو هريرة والحسن بن علي والحسن البصري والنخعي والشعبي والأوزاعي: أدبار السجود: الركعتان بعد المغرب،
وأدبار النجوم: الركعتان قبل الفجر، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، وقد روي عنه مرفوعاً أخبرنيه عقيل قال: أخبرنا المعافى، قال حدثنا ابن جرير، قال: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن فضيل عن رشيد بن كريب عن أبيه عن ابن عباس قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم "يا ابن عباس ركعتان بعد المغرب أدبار السجود" .
وقال أنس بن مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من صلّى بعد المغرب ركعتين قبل أن يتكلم كتبت صلاته في عليّين" ، قال أنس: يقرأ في الركعة الأولى: { { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ } [الكافرون: 1] وفي الأخرى: { { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [الصمد:1 ].
قال مقاتل: وقتهما مالم يغب الشفق، وقال مجاهد: هو التسبيح باللسان في أدبار الصلوات المكتوبات، ورواه عن ابن عباس. وقال ابن زيد: هو النوافل أدبار المكتوبات.
واختلف القرّاء في قوله: { وَأَدْبَارَ }، فقرأ الحسن والأعرج وخارجة وأبو عمر ويعقوب وعاصم والكسائي: بفتح الألف، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، وقرأ الآخرون: بالكسر،
وهي قراءة عليّ وابن عباس.
وقال بعض العلماء في قوله سبحانه: { قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ } قال: ركعتي الفجر، { وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ } قال: الركعتين قبل المغرب.
روى عمارة بن زاذان عن ثمامة بن عبد الله عن أنس بن مالك قال: كان ذوو الألباب من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يصلّون الركعتين قبل المغرب.
وروى شعبة عن يزيد بن جبير عن خالد بن معدان عن رغبان مولى حبيب بن مسلمة قال: رأيت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يهبّون إليها كما يهبّون إلى المكتوبة يعني الركعتين قبل المغرب.
وقال قتادة: ما أدركت أحداً يصلّي الركعتين قبل المغرب إلاّ أنس وأبا برزة.
{ وَٱسْتَمِعْ } يا محمد صيحة القيامة { يَوْمَ يُنَادِ ٱلْمُنَادِ } إسرافيل عليه السلام تأتيه العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة: إن الله [يأمركن] أن تجتمعن بفصل القضاء. { مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } صخرة بيت المقدس، وهي وسط الأرض وأقرب الأرض الى السماء بثمانية عشر ميلا، { يَوْمَ يَسْمَعُونَ ٱلصَّيْحَةَ بِٱلْحَقِّ } وهي النفخة الأخيرة، { ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ } من القبور. { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِـي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا ٱلْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً } جمع سريع، وهو نصب على الحال، مجازه: فيخرجون سراعاً، { ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ }: بمسلط قهّار يجبرهم على الاسلام، إنما بعثت مذكِراً مجدِداً.
قال ثعلب: قد جاءت أحرف فعّال بمعنى مفعل وهي شاذة، جبّار بمعنى مُجْبر، ودرّاك بمعنى مدرك، وسرّاع بمعنى مسرع، وبكّاء بمعنى مبك، وعدّاء بمعنى معد،
وقد قريء: { { وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ } [غافر: 29] بمعنى المرشد، وسمعت أبا منصور الجمشاذي يقول: سمعت أبا حامد الجازرنجي يقول: (العون) سيفٌ سقّاط، بمعنى مُسْقط.
وقال بعضهم: الجبّار من قولهم جَبَرتْه على الأمر بمعنى أجبرته، وهي لغة كنانة وهما لغتان.
وقال الفرّاء: وضع الجبّار في موضع السلطان من الجبرية. قال: وأنشدني المفضّل:
ويوم الحزن إذ حشدت مَعدٌوكان الناس إلا نحن دينا
عصتنا عزمة الجبّار حتىصبحنا الجوف ألفاً معلمينا
قال: أراد بالجبّار المنذر بن النعمان لولايته.
{ فَذَكِّرْ } يا محمّد { بِٱلْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيد } قال ابن عباس: قالوا يا رسول الله لو خوّفتنا؟ فنزلت { فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ }.