التفاسير

< >
عرض

وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ
٢٠
وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ
٢١
وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ
٢٢
فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ
٢٣
-الذاريات

الكشف والبيان

{ وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ } عِبَرٌ وعظات إذا ساروا فيها. { آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ }.
{ وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ } أيضاً آيات { أَفَلاَ تُبْصِرُونَ }.
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن جعفر بن الطيب الكلماباذي بقراءتي عليه، قال: حدّثنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص، قال: حدّثنا السري بن خزيمة الآبيوردي، قال: حدّثنا أبو نعيم، قال: حدّثنا سفيان عن ابن جريج عن محمد بن المرتفع عن الزبير { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ }، قال: سبيل الغايط والبول، وقال المسيب بن شريك: يأكل ويشرب من مكان واحد، ويخرج من مكانين، ولو شرب لبناً محضاً خرج ماء، فتلك الآية في النفس.
وقال أبو بكر الوراق: { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } يعني في تحويل الحالات وضعف القوة وقهر المنّة وعجز الأركاب وفسخ الصريمة ونقض العزيمة، ثم أخبر سبحانه وتعالى أنّه وضع رزقك حيث لا يأكله السوس ولا يناله اللصوص، فقال سبحانه: { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } يعني المطر والثلج اللذين بهما تخرج الأرض النبات الذي هو سبب الأقوات، وقال بعض أهل المعاني: معناه: وفي المطر والنبات سبب رزقكم، فسمّي المطر سماء؛ لأنّه عن السماء ينزل، قال الشاعر:

إذا سقط السماء بأرض قومرعيناه وإن كانوا غضابا

وقال ابن كيسان: يعني وعلى ربّ السماء رزقكم { فِي } بمعنى (على) كقوله: { { فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ } [طه: 71]، وذكر الربّ مختصراً، كقوله: { { وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [يوسف: 82]، ونظيره قوله: { { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا } [هود: 6].
وأخبرني عقيل أنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير، قال: حدّثنا ابن حميد، قال: حدّثنا هارون بن المعتز من أهل الري عن سفيان الثوري قال: قرأ واصل الأحدب هذه الآية: { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } فقال: ألا أرى رزقي في السماء، وأنا أطلبه في الأرض؟ فدخل خربة فمكث ثلاثاً لا يصيب شيئاً، فلمّا أن كان اليوم الثالث إذا هو يرى جلّة من رطب، وكان له أخ أحسن نيّة منه فدخل معه (فصارتا جلّتين)، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرّق بينهما الموت.
أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن خميس قال: حدّثنا ابن مجاهد قال: حدّثنا إبراهيم بن هاشم البغوي قال: حدّثنا ابن أبي بزّة، قال: حدّثنا حسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد عن شبل بن عبّاد عن ابن (أبي نجيح) أنّه قرأ (وفي السماء رازقكم وما توعدون) بالألف يعني الله. قال مجاهد: { وَمَا تُوعَدُونَ } من خير أو شر، وقال الضحاك { وَمَا تُوعَدُونَ } من الجنة والنار، وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا موسى بن محمد قال: حدّثنا الحسن بن علويّة قال: حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدّثنا المسيب بن شريك قال: قال أبو بكر بن عبد الله: سمعت ابن سيرين يقول: { وَمَا تُوعَدُونَ }: الساعة.
{ فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ } يعني أن الذي ذكرت من أمر الرزق { لَحَقٌّ مِّثْلَ } بالرفع قرأه أهل الكوفة بدلا من (الحق)، وغيرهم بالنصب أي كمثل.
{ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } فتقولون: لا إله إلاّ الله، وقيل: كما أنّكم ذوو نطق خصصتم بالقوة الناطقة العاقلة فتتكلمون، هذا حق كما حق أنّ الآدمي ناطق، وقال بعض الحكماء: كما أنّ كلّ انسان ينطق بلسان نفسه، ولا يمكنه أن ينطق بلسان غيره، فكذلك كلّ إنسان يأكل رزقه الذي قسم له، ولا يقدر أن يأكل رزق غيره، وقال الحسن في هذه الآية: بلغني أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"قاتل الله أقواماً أقسم لهم ربّهم بنفسه فلم يصدّقوه" .
حدّثنا أبو القاسم بن حبيب قال: أخبرنا أبو الحسن الكائيني وأبو الطيّب الخياط وأبو محمد يحيى بن منصور الحاكم في القسطنطينية قالوا: حدّثنا أبو رجاء محمد بن أحمد القاضي، قال: حدّثنا أبو الفضل العباس بن الفرج الرياسي البصري، قال: سمعت الأصمعي يقول: أقبلتُ ذات يوم من المسجد الجامع في البصرة فبينا أنا في بعض سككها إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلد سيفه وبيده قوس، فدنا وسلّم وقال لي: مَن الرجل؟، قلت: من بني الأصمع، قال: أنت الاصمعي؟ قلت: نعم، قال: ومن أين أقبلت؟، قلت من موضع مليء بكلام الرَّحْمن، قال: وللرَّحْمن كلام يتلوه [الآدمين].
قلت: نعم، قال: اتلُ عليّ شيئاً منه، فقلت له: انزل عن قعودك. فنزل، وابتدأت بسورة والذاريات، فلمّا انتهيت إلى قوله سبحانه: { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } . قال: يا أصمعي هذا كلام الرَّحْمن؟، قلت: أي والذي بعث محمداً بالحق، إنّه لكلامه أنزله على نبيّه محمد، فقال لي: حسبك، ثم قام إلى الناقة فنحرها وقطعها كلّها، وقال: أعنيّ على توزيعها ففرقناها على من أقبل وأدبر، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وجعلهما تحت الرمل وولّى مدبراً نحو البادية وهو يقول: { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ }.
فأقبلت على نفسي باللوم وقلت: لم تنتبهي لما انتبه له الأعرابي، فلمّا حججت مع الرشيد دخلت مكة، فبينا أنا أطوف بالكعبة إذ هتف بي هاتف بصوت دقيق فالتفتّ فإذا أنا بالأعرابي نحيلاً مصفاراً فسلّم عليّ وأخذ بيدي وأجلسني من وراء المقام وقال لي: اتل كلام الرَّحْمن، فأخذت في سورة والذاريات، فلمّا انتهيت الى قوله: { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ }، صاح الاعرابي فقال: وجدنا ما وعدنا ربنّا حقاً، ثم قال: وهل غير هذا؟ قلت: نعم يقول الله سبحانه { فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ }، فصاح الأعرابي وقال: يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف؟، ألم يصدّقوه بقوله حتى ألجأوه إلى اليمين؟ قالها ثلاثاً وخرجت فيها نفسه.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شيبة، قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان، قال: حدّثنا أبو حاتم قال: حدّثنا شبانة، قال حدّثنا صدقة، قال حدّثنا الوضين بن عطاء عن زيد بن جرير أنّ رجلا جاع في مكان ليس فيه شيء، فقال: اللّهم رزقك الذي وعدتني فأتني به، قال: فشبع وروى من غير طعام ولا شراب.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن القاسم الخطيب. قال: حدّثنا إسماعيل بن العباس بن محمد الوراق، قال: حدّثنا الحسين بن سعيد بن محمد المحرمي، قال: حدّثنا علي ابن يزيد العبداني قال: حدّثنا فضيل بن مسروق عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"لو أنّ أحدكم فرّ من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت" وأنشدت في معناه:

الرزق في القرب وفي البعدأطلَبُ للعبد من العبد
لو قصّر الطالب في سعيهأتاه ما قدّر في قصد

وقال دعبل:

أسعى لأطلب رزقي وهو يطلبنيوالرزق أكثر لي مني له طلباً