التفاسير

< >
عرض

وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ
٤٦
وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَٰهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ
٤٧
وَٱلأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ ٱلْمَاهِدُونَ
٤٨
وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
٤٩
فَفِرُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
٥٠
وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
٥١
كَذَلِكَ مَآ أَتَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ
٥٢
أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ
٥٣
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ
٥٤
وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ
٥٥
وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ
٥٦
مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ
٥٧
إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ
٥٨
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ
٥٩
فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ
٦٠
-الذاريات

الكشف والبيان

{ وَقَوْمَ نُوحٍ } قرأ أبو عمرو والاعمش وحمزة والكسائي وخلف (وقوم) بجرّ الميم في { وَقَوْمَ نُوحٍ }، وقرأ الباقون بالنصب، وله وجوه: أحدهما: أن يكون مردوداً على الهاء والميم في قوله { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّاعِقَةُ } أي وأخذت قوم نوح، والثاني: وأهلكنا قوم نوح، والثالث: واذكر قوم نوح { مِّن قَبْلُ } أي من قبل عاد وثمود وقوم فرعون { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ }.
{ وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ } بقوة { وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } قال ابن عباس قادرون، وعنه أيضاً: لموسعون الرزق على خلقنا. الضحاك: أغنياء، دليله قوله سبحانه
{ { عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ } [البقرة: 236] القتيبي: ذوو سعة على خلقنا. الحسين بن الفضل: أحاط علمنا بكل شيء. الحسن: مطبقون.
{ وَٱلأَرْضَ فَرَشْنَاهَا } بسطنا ومهدّنا لكم { فَنِعْمَ ٱلْمَاهِدُونَ } الباسطون، والمعنى في الجمع التعظيم.
{ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } صنفين ونوعين مختلفين كالسماء والأرض، والشمس والقمر، والليل والنهار، والبر والبحر، والسهل والجبل، والشتاء والصيف، والجن والانس، والكفر والإيمان، والشقاوة والسعادة، والحق والباطل، والذكر والانثى، والجنة والنار. { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } فتعلمون أنّ خالق الأزواج فرد.
{ فَفِرُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ } أي: فاهربوا من عذاب الله إلى ثوابه بالإيمان ومجانبة العصيان.
قال ابن عباس: فرّوا منه إليه، واعملوا بطاعته، وقال أبو بكر الورّاق: فرّوا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرَّحْمن، وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن يوسف قال: حدّثنا محمد بن حمدان بن سفيان، قال: حدّثنا محمد بن زياد قال: حدّثنا يعقوب بن القاسم، قال: حدّثنا محمد بن معز عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان في قوله سبحانه { فَفِرُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ } قال: اخرجوا إلى مكة. الحسين بن الفضل: احترزوا من كل شيء دونه، فمن فرّ إلى غيره لم يمتنع منه.
قال الجنيد: الشيطان داع إلى الباطل، ففرّوا إلى الله يمنعكم منه. ذو النون: ففرّوا من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الشكر. عمرو بن عثمان: فرّوا من أنفسكم إلى ربّكم. الواسطي: فرّوا إلى ما سبق لكم من الله ولا تعتمدوا على حركاتكم. سهل بن عبد الله: فرّوا مما سوى الله إلى الله. { إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِين }.
{ وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ }.
{ كَذَلِكَ } أي: كما كفر بك قومك، وقالوا ساحر ومجنون كذلك { مَآ أَتَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ }.
{ أَتَوَاصَوْاْ بِهِ } أوصى بعضهم بعضاً بالتكذيب وتواطؤوا عليه، والألف فيه ألف التوبيخ. { بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } عاصون.
{ فَتَوَلَّ } فأعرض { عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ } فقد بلّغتَ ما أُرسلتَ به وما قصّرتَ فيما أُمرتَ.
قال المفسرون: فلمّا نزلت هذه الآية حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتدّ ذلك على أصحابه، ورأوا أن الوحي قد انقطع وأنّ العذاب قد حضر، فأنزل الله سبحانه { وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ * وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } قال علي بن أبي طالب: معناه إلاّ لآمرهم أن يعبدوني، وأدعوهم إلى عبادتي، واعتمد الزجاج هذا القول، ويؤيده قوله
{ { وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُوۤاْ إِلَـٰهاً وَاحِداً } [التوبة: 31] وقوله: { { وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } [البينة: 5].
قال ابن عباس: ليقرّوا لي بالعبودية طوعاً أو كرهاً.
فإن قيل: فكيف كفروا وقد خلقهم للإقرار بربوبيته والتذلّل لأمره ومشيئته، وأنهم قد تذللوا لقضائه الذي قضى عليهم؟ (قلنا: ) لأنّ قضاءه جار عليهم ولا يقدرون الامتناع منه إذا نزل بهم، وإنّما خالفه من كفر به في العمل بما أمره به، فأمّا التذلّل لقضائه فإنّه غير ممتنع فيه، وقال مجاهد: إلاّ ليعرفونِ.
ولقد أحسن في هذا القول لأنّه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده، ودليل هذا التأويل قوله:
{ { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ } [التوبة: 65] الآيات.
وروى حيّان عن الكلبي: إلاّ ليوحّدونِ، فأمّا المؤمن فيوحّده في الشدّة والرخاء، وأمّا الكافر فيوحده في الشدّه والبلاء دون النعمة والرخاء، بيانه قوله سبحانه:
{ { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلْفُلْكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } [العنكبوت: 65] } الآية.
وقال عكرمة: إلا ليعبدونِ ويطيعونِ. فأُثيب العابد وأعاقب الجاحد، وقال الضحاك وسفيان: هذا خاص لأهل عبادته وطاعته. يدلّ عليه (ما) قرأهُ ابن عباس: { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ } من المؤمنين { إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }. قال في آية أُخرى:
{ { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ } [الأعراف: 179] وقال بعضهم: معناه وما خلقت السعداء من الجن والإنس إلاّ لعبادتي، والأشقياء منهم إلاّ لمعصيتي، وهذا معنى قول زيد بن أسلم، قال: ما جبلوا عليه من الشقاء والسعادة، وقال الحسين بن الفضل: هو الاستعباد الظاهر.
وليس على هذا القدر؛ لأنّه لو قدر عليهم عبادته لما عصوه ولما عبدوا غيره وإنمّا هو كقوله:
{ { وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [النحل: 78] ثم قال: { { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } [الأعراف: 10] { { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } [سبأ: 13].
ووجه الآية في الجملة أنّ الله تعالى لم يخلقهم للعبادة خلق جبلة وإجبار وإنّما خلقه لهم خلق تكليف واختيار، فمن وفّقه وسدّده أقام العبادة التي خُلق لها، ومن خذله وطرده حرمها وعمل بما خلق لها. كقوله صلى الله عليه وسلم
"اعملوا فكل ميسر لما خلق له" والله أعلم.
{ مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ } أي رزقاً { وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ } قرأه العامّة برفع النون على نعت الله سبحانه وتعالى، وهو القوي المقتدر المبالغ في القوّة والقدرة.
قال ابن عباس: المتين الصلب الشديد، وقرأ يحيى والأعمش (ٱلْمَتِينُ) خفضاً على نعت القوّة. قال الفرّاء: كان حقّه التأنيث فذكّره؛ لأنّه ذهب به إلى الشيء المبرم المحكم الفتل، كما يقال: حبل متين، وأنشد الفرّاء:

لكلّ دهر قد لبست أثوباحتى اكتسى الرأس قناعاً أشيبا

من ريطة واليمنة المعصّبا

فذكّر المعصب؛ لأنّ اليمنة صنف من الثياب.
ومن هذا الباب قوله سبحانه:
{ { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ } [البقرة: 275] أي وعظ، وقوله: { { وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيْحَةُ } [هود: 67] أي الصياح والصوت.
وأخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري، قال: حدّثنا القطيفي، قال: حدّثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثنا يحيى بن آدم ويحيى بن أبي كثير قالا: حدّثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبدالرَّحْمن بن يزيد عن عبدالله بن مسعود قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ }.
{ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } كفروا من أهل مكة { ذَنُوباً } قال ابن عباس وسعيد بن جبير: سجّلا. مجاهد: سبيلا. النخعي: طرفاً. عطاء وقتادة: عذاباً. الحسن: دولة. الكسائي: حظاً. الأخفش: نصيباً. وأصل الذّنوب في اللغة الدلو الكبيرة العظيمة المملوءة ماءً.
قال الراجز:

لها ذَنوب ولكم ذَنوبفإن أبيتم فلنا القليب

ثم يستعمل في الحظ والنصيب كقول علقمة بن عبيدة.

وفي كل قوم قد خبطت بنعمةفحق لشأس من نداك ذَنوب
لعمرك والمنايا طارقاتلكل بني أب منهم ذَنوب

{ مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ } من كفار الأُمم الخالية { فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ } بالعذاب، فإنّما أُمهلوا مع ذنوبهم لأجل ذنوبهم.
{ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ } وهو يوم بدر، وقيل: يوم القيامة.