التفاسير

< >
عرض

يَوْمَ تَمُورُ ٱلسَّمَآءُ مَوْراً
٩
وَتَسِيرُ ٱلْجِبَالُ سَيْراً
١٠
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
١١
ٱلَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ
١٢
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا
١٣
هَـٰذِهِ ٱلنَّارُ ٱلَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ
١٤
أَفَسِحْرٌ هَـٰذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ
١٥
ٱصْلَوْهَا فَٱصْبِرُوۤاْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
١٦
إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ
١٧
فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ
١٨
كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
١٩
مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ
٢٠
وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ ٱمْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ
٢١
وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ
٢٢
يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ
٢٣
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ
٢٤
-الطور

الكشف والبيان

{ يَوْمَ تَمُورُ ٱلسَّمَآءُ مَوْراً } أي تدور كدوران الرحى، وتتكفّأ بأهلها تكفّأ السفينة، ويموج بعضها في بعض.
واختلفت عبارات المفسرين فيها: قال ابن عباس: تدور دوراناً. قتادة: تتحرك. الضحاك: تحرك. عطاء الخراساني: تختلف إحداها بعضها في بعض. قطرب: تضطرب. عطية: تختلف. المؤرخ: يتحول بعضهم تحولا. الأخفش: تتكفّأ، وكلّها متقاربة.
وأصل المَوْر الاختلاف والاضطراب، قال رؤبة:

مسودّة الأعضاد من وشم العرقمائرة الضبعين مصلات العنق

أي مضطربة العضدين.
{ وَتَسِيرُ ٱلْجِبَالُ سَيْراً } فتزول عن أماكنها وتصير هباءً منبثّاً.
{ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } وإنّما أدخل الفاء في قوله { فَوَيْلٌ } ؛ لأن في الكلام معنى المجاراة مجازه: إذا كان هذا فويل يومئذ للمكذبين.
{ ٱلَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ } باطل { يَلْعَبُونَ } غافلين جاهلين ساهين لاهين.
{ يَوْمَ يُدَعُّونَ } يُدفعون { إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } دفعاً ويُزعجون إليها إزعاجاً، وذلك أنّ خزنة النار يغلّون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ثم يدفعونهم إلى النار دفعاً على وجوههم، وتجافى أقفيتهم حتى يردوا النار.
وقرأ أبو رجاء العطاردي { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } بالتخفيف من الدعاء. قالوا: فاذا دَنَوْا من النار قالت لهم الخزنة: { هَـٰذِهِ ٱلنَّارُ ٱلَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَـٰذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ }.
{ ٱصْلَوْهَا } ادخلوها { فَٱصْبِرُوۤاْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ } ذوي فاكهة كثيرة، وفكهين: معجبين ناعمين.
{ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ } ثم يقال لهم: { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ } قد صفّ بعضها إلى بعض، وقوبل بعضها ببعض { وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ * وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ } قرأ أبو عمرو «وأتبعناهم» بالنون والألف «ذرياتهم» بالألف فيهما، وكسر التائين لقوله: { أَلْحَقْنَا } { وَمَآ أَلَتْنَاهُم } ليكون الكلام على نسق واحد، وقرأ الآخرون { وَٱتَّبَعَتْهُمْ } بالتاء من غير ألف ثم اختلفوا في قوله: { ذُرِّيَّتُهُم }، وقرأ أهل المدينة الأُولى بغير ألف وضم التاء، والثانية بالألف وكسر التاء، وقرأ أهل الشام بالألف فيهما وكسر تاء الثانية، وهو اختيار يعقوب وأبي حاتم، وقرأ الآخرون بغير ألف فيهما وفتح تاء الثانية، وهو اختيار أبي عبيد.
واختلف المفسّرون في معنى الآية، فقال قوم: معناها والذين آمنوا واتّبعتهم ذريّتهم التي بلغت الإيمان { بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } الصغار الذين لم يبلغوا الإيمان، وهو قول الضحّاك ورواية العوفي عن ابن عباس. فأخبر الله سبحانه وتعالى أنّه يجمع لعبده المؤمن ذرّيته في الجنة كما كان يحب في الدنيا أن يجتمعوا له، ويدخلهم الجنة بفضله ويلحقهم بدرجته، بعمل الأب من غير أن ينقص الآباء من أجور أعمالهم شيئاً فذلك قوله سبحانه: { وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } يعني الآباء، والهاء والميم راجعان إلى قوله: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ }، والألت: النقص والبخس.
أخبرني الحسن بن محمد بن عبد الله الحديثي، قال: حدّثنا سعيد بن محمد بن إسحاق الصيرفي قال: حدّثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدّثنا جنادة بن المفلس، قال: حدّثنا قيس بن الربيع، قال: حدّثنا عمرو بن المسرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"إنّ الله يرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقرّ بهم عينه ثم قرأ { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } قال: ما نقصنا الآباء بما أعطينا (البنين)" .
وأخبرنا الحسن بن محمد قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن علي بن الحسن الهمداني، قال: حدّثنا أبو عبد الله عمر بن نصر البغدادي ببردعة، قال: حدّثنا محمد بن عبد الرَّحْمن بن غزوان، قال: حدّثنا شريك بن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: أظنّه ذكره عن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة فسأل عن أبويه وزوجته وولده، فيقال: إنّهم لم يدركوا ما أدركت، فيقول: عملت لي ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به" وتلا ابن عباس: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ }.
وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا القطيعي قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني عثمان بن أبي شيبة، قال: حدّثنا محمد بن فضيل عن محمد بن عثمان عن زاذان عن علي قال:
"سألتْ خديجة النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ولدين ماتا في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هما في النار قال: فلمّا رأى الكراهية في وجهها قال: لو رأيت مكانهما لأبغضتِهما قالت: يا رسول الله فولداي منك؟
قال: في الجنة"
.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « { إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار } » ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } { كُلُّ ٱمْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ } من الخير والشر { رَهَينٌ } مرهون فيؤخذ بذنبه ولا يؤخذ بذنب غيره.
{ وَأَمْدَدْنَاهُم } وأعطيناهم { بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } من أنواع اللحمان { يَتَنَازَعُونَ } يتعاطون فيتناولون ويتداولون { فِيهَا كَأْساً } إناءً فيها خمر { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا } وهو الباطل. عن قتادة. مقاتل بن حيان: لا فضول فيها. سعيد بن المسيّب: لا رفث فيها. ابن زيد: لا سباب ولا تخاصم فيها. القتيبي: لا يذهب بعقولهم فيلغوا ويرفثوا، وقال ابن عطاء: أي لغو يكون في مجلس محلّه جنة عدن، والساقي فيه الملائكة، وشربهم على ذكر الله، وريحانهم تحية من عند الله مباركة طيبة، والقوم أضياف الله { وَلاَ تَأْثِيمٌ } أي فعل يؤثمهم، وهو تفعيل من الإثم، يعني: إنّهم لا يأثمون في شربها.
وقال ابن عباس: يعني ولا كذب، وقال الضحّاك: يعني لا يكذب بعضهم بعضاً.
{ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ } بالخدمة { غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ } من بياضهم وصفاء لونهم { لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } مخزون مصون، قال سعيد بن جبير: يعني في الصدف.
أخبرني الحسن بن محمد، قال: حدّثنا أحمد بن علي بن عمر بن خنيس، قال: حدّثنا محمد بن أحمد بن عصام، قال: حدّثنا عمر بن عبدالعزيز المصري، قال: حدّثنا يوسف بن أبي طيبة عن وكيع بن الجراح عن هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنه قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدمه فيجيبه ألف، يناديه كلّهم: لبيك" .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو علي المقرئ، قال: حدّثنا محمد بن عمران قال: حدّثنا هاني بن المسري، قال: حدّثنا عبيده بن سعيد عن قتادة بن عبد الله بن عمر قال: ما من أحد من أهل الجنة إلاّ سعى له ألف غلام، كل غلام على عمل ما عليه صاحبه.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن إبراهيم بن أيوب المنوي قال: حدّثنا الحسن ابن الكميت الموصلي قال: حدّثنا المعلى بن مهدي، قال: أخبرنا مسكين عن حوشب عن الحسن أنّه كان إذا تلا هذه الآية { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } قالوا: يا رسول الله الخادم كاللؤلؤ فكيف بالمخدوم؟ قال
"ما بينهما كما بين القمر ليلة البدر وبين أصغر الكواكب" .