التفاسير

< >
عرض

يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ
٨
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ
٩
وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ
١٠
وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
١١
-المنافقون

الكشف والبيان

{ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ } يعني من غزوة بني لحيان ثمّ بني المصطلق، وهم حي من هذيل { لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ).

{ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } فعزّة اللّه سبحانه قهر مَن دونه، وعزّ رسوله إظهار دينه على الأديان كلّها، وعزّ المؤمنين نصره إيّاهم على أعدائهم فهم ظاهرون.
وقيل: عزّة اللّه: الولاية، قال اللّه تعالى
{ { هُنَالِكَ ٱلْوَلاَيَةُ لِلَّهِ ٱلْحَقِّ } [الكهف: 44] وعزّة الرسول: الكفاية قال اللّه سبحانه: { { إِنَّا كَفَيْنَاكَ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ } [الحجر: 95] وعزّ المؤمنين: الرفعة والرعاية قال اللّه سبحانه: { { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [آل عمران: 139] وقال { { وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } [الأحزاب: 43].
وقيل: عزة اللّه الربوبية، وعزّة الرسول: النبوّة. وعزّة المؤمنين: العبودية.
وكان جعفر الصّادق يقول: "من مثلي وربّ العرش معبودي، من مثلي وأنت لي".
وقيل: عزّة اللّه خمسة: عزّ الملك والبقاء، وعزّ العظمة والكبرياء، وعزة البذل والعطاء، وعزّ الرفعة والغناء، وعزّ الجلال والبهاء، وعزّ الرسول خمسة: عزّ السبق والابتداء، وعزّ الأذان والنداء، وعزّ قدم الصدق على الأَنبياء، وعزّ الاختيار والاصطفاء، وعزّ الظهور على الأعداء، وعزّ المؤمنين خمسة: عزّ التأخير بيانه: نحن السابقون الآخرون، وعزّ التيسير بيانه:
{ { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [القمر: 17] { { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ } [البقرة: 185]، وعزّ التبشير بيانه: { { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً } [الأحزاب: 47]، وعزّ التوقير بيانه: { { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ } [آل عمران: 139]، وعزّ التكثير وبيانه: إنهم أكثر الأُمم.
{ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ } لا تشغلكم { أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } قال المفسرون: يعني الصلوات الخمس، نظيره قوله سبحانه:
{ { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ } [النور: 37] الآية.
{ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ } أمهلتني يجوز أن يكون (لا) صلة، فيكون الكلام بمعنى التمنّي، ويجوز أن يكون بمعنى هلاّ فيكون استفهاماً.
{ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ } يعني مثل ما أجلت في الدنيا، { فَأَصَّدَّقَ } فأتصدّق وأزكّي مالي.
{ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } المؤمنين نظيره قوله
{ { وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ } [الرعد: 23] هذا قول مقاتل وجماعة من المفسرين، وقالوا: نزلت هذه الآية في المنافقين.
وقيل: الصالح ها هنا: الحج، والآية نازلة في المؤمنين.
روى الضّحاك وعطية عن إبن عبّاس قال: ما من أحد يموت وكان له مال ولم يؤدِّ زكاته وأطاق الحجّ ولم يحجّ إلاّ سأل الرجعة عند الموت فقالوا: يا بن عبّاس اتّق اللّه فأنّما نرى هذا الكافر سأل الرجعة فقال: أنا أقرأ عليكم قرآناً، ثم قرأ هذه الآية الى قوله { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } قال: أحجّ، أخبرناه إبن منجويه قال: حدّثنا إبن حمدان قال: حدّثنا إبن سهلويه قال: حدّثنا سلمة قال: حدّثنا عبد الرزّاق قال: أخبرنا الثوري عن يحيى بن أبي حيّة عن الضّحاك عن إبن عبّاس.
واختلف القرّاء في قوله { وَأَكُنْ } فقرأ أبو عَمرو وإبن محيص: وأكون بالواو ونصب النون على جواب التمنّي أو للاستفهام بالفاء، قال أَبُو عَمرو: وإنما حذفت الواو من المصحف اختصاراً كما حذفوها في (كلّمن) وأصلها الواو.
قال الفرّاء: ورأيت في بعض مصاحف عبد اللّه فقولا فقُلا بغير واو، وتصديق هذه القراءة ما أخبرنا محمّد بن نعيم قال: أخبرنا الحسين بن أيّوب قال: أخبرنا علي بن عبد العزيز قال: أخبرنا القاسم بن سلام قال: حدّثنا حجاج عن هارون قال: في حرف أُبي بن كعب وعبد اللّه بن مسعود وأكون من الصالحين، بالواو.
وقرأ الآخرون: بالجزم وأكنْ عطفاً بها على قوله فأصّدّق لو لم يكن فيه الفاء وذلك أنّ قوله فأصدّق لو لم يكن فيه الفاء كان جزماً، واختار أَبُو عبيد الجزم، قال: من ثلاث جهات: أحدها: إنّي رأيتها في مصحف الإمام عثمان (فأكن) بحذف الواو ثم اتفقت بذلك المصاحف فلم تختلف.
والثانية: اجتماع أكثر قرّاء الأمصار عليها.
والثالثة: إنّا وجدنا لها مخرجاً صحيحاً في العربية لا يجهله أهل العلم بها وهو أنْ يكون نسقاً على محل أصّدق قبل دخول الفاء، وقد وجدنا مثله في أشعارهم القديمة منها قول القائل:

فأبلوني بليتكم لعلّيأصالحكم واستدرجْ نويا

فجزم واستدرج عطفاً على محل أصالحكم قبل دخول لعلّي.
{ وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } بالياء مختلف عنه غيره بالتاء.