التفاسير

< >
عرض

يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ ٱلْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلتَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
٩
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَآ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
١٠
مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
١١
وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ
١٢
ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ
١٣
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَٱحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٤
إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَٱللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
١٥
فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ وَٱسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
١٦
إِن تُقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ
١٧
عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
١٨
-التغابن

الكشف والبيان

{ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ } قراءة العامّة بالياء لقوله سبحانه { فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلنّورِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلْنَا وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } وقرأ [رويس عن يعقوب (يوم نجمعكم)] بالنون اعتباراً بقوله أنزلنا.
{ لِيَوْمِ ٱلْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلتَّغَابُنِ } وهو تفاعل من الغبن وهو فوت الحظ والمراد، وقد ورد في تفسير التغابن عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ما أخبرنا الحسن بن محمّد قال: حدّثنا موسى بن محمد بن علي قال: حدّثنا عبد اللّه بن محمد بن سنان قال: حدّثنا كثير بن يحيى قال: حدّثنا أَبُو آمنة بن معلّى الثقفي قال: حدّثنا سعيد بن أبي سعيد المنقري عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال:
"ما من عبد مؤمن يدخل الجنّة إلاّ أُري مقعده من النّار لو أساء ليزداد شكراً، وما من عبد يدخل النّار إلاّ أُري مقعده من الجنّة لو أحسن ليزداد حسرة" .
قال المفسّرون: من غبن أهله منازله في الجنّة فيظهر يومئذ غبن كلّ كافر ببركة الإيمان، وغبن كلّ مؤمن بتقصيره في الإحسان وتضييعه الأيّام.
{ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } قرأ أهل المدينة والشام ها هنا وفي السورة الّتي تليها: نكفّر وندخله بالنون، والباقون بالياء.
{ ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } بأرادته وقضائه.
{ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ } قصدوا به لا يصيب مصيبةً إلاّ بإذن اللّه { يَهْدِ قَلْبَهُ } يوفقه لليقين حتّى يعلم أنّ ما أَصابه لم يكن ليخطئه، وما أَخطأه لم يكن ليصيبه قاله إبن عبّاس.
وأنبأني عبد اللّه بن حامد إجازة قال: أخبرنا الحسن بن يعقوب قال: حدّثنا أَبُو إسحاق إبراهيم بن عبد اللّه قال: حدّثنا وكيع عن الأعمش عن أبي ظبيان قال: كنّا نعرض المصاحف على علقمة بن قيس فمرّ بهذه الآية { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } فسألناه عنها فقال: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنّها من عند اللّه فيرضى ويسلّم.
وقال أَبُو بكر الورّاق: ومن يؤمن بالله عند النعمة والرخاء، فيعلم أنّها من فضل اللّه يهد قلبه للشكر، ومن يؤمن باللّه عند الشدّة والبلاء فيعلم أنّها من عند اللّه يهدِ قلبه للرضا والصبر.
وقال أَبُو عثمان الجيري: ومن صحّ إيمانه يهد قلبه لاتباع السنّة.
وقد اختلف القرّاء في هذه الآية، فقراءة العامّة (يهد قلبه) بفتح الياء والباء واختاره أَبُو عبيده وأَبُو حاتم، وقرأ السلمي بضم الياء والباء وفتح الدّال على الفعل المجهول، وقرأ طلحة ابن مصرف: نهد قلبه بالنون وفتح الباء على التعظيم.
وأخبرني إبن فنجويه قال: حدّثنا إبن حمدان قال: حدّثنا أحمد بن الفرج المقرئ قال: حدّثنا أَبُو عمر المقرئ قال: حدّثنا أَبُو عمارة قال: حدّثنا سهل بن موسى الأَسواري قال: أخبرني من سمع عكرمة يقرأ: ومن يؤمن باللّه يهدأ قلبه، من الهدوء أي يسكن ويطمئن.
وقرأ مالك بن دينار: يهدا قلبه بألف لينّة بدلا من الهمزة.
{ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ } التبليغ البيّن.
{ ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَٱحْذَرُوهُمْ } نزلت في قوم أرادوا الهجرة فثبّطهم عنها أزواجهم وأولادهم.
قال ابن عبّاس: كان الرجل يُسلم، فإذا أراد أن يهاجر منعه أهله وولده وقالوا له: ننشدك اللّه أنْ تذهب وتدع أهلك وعشيرتك وتصير بالمدينة بلا أهل ومال، وإنّا قد صبرنا على إسلامك فلا نصبر على فراقك، ولا نخرج معك، فمنهم من يرقّ لهم ويقيم لذلك فلا يهاجر، فإذا هاجر رأى النّاس قد نقموا في الدّين منهم أن يعاقبهم في تباطئهم به عن الهجرة، ومنهم من لا يطيعهم ويقولون لهم في خلافهم في الخروج: لئن جمعنا اللّه وإيّاكم لا تصيبون منّي خيراً، ولأَفعلنَّ، وأفعلنّ فأنزل اللّه سبحانه هذه الآية.
وقال عطاء بن يسار وعطاء الخراساني: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزّو بكوا إليه ورفّقوه وقالوا: إلى من تكلنا وتدعنا فيرقّ ويقيم، فأنزل اللّه سبحانه وتعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ } لحملهم إيّاكم على المعصية وترك الطاعة فاحذروهم أن تقبلوا منهم.
{ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ } فلا تعاقبوهم على خلافهم إيّاكم { فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } بلاء واختبار يحملكم على الكسب من الحرام والمنع عن الحقّ، وقال القتيبي: إغرام يقال فتن فلان بفلانة أي أُغرم بها.
قالت الحكماء: أُدخل من التبعيض في ذكر الأَزواج والأولاد حيث أُخبر عن عداوتهم، لأنّ كلّهم ليسوا بأعداء ولم يذكر من في قوله { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } لأنّها لا تخلو عن الفتنة واشتغال القلب بها، يدلّ عليه قول عبد اللّه بن مسعود: "لا يقولنّ أحد: اللّهم إنّي أعوذ بك من الفتنة، فإنّه ليس منكم أحد يرجع إلى مال وأهل وولد إلاّ وهو مشتمل على فتنة، ولكن ليقل: اللّهم إني أعوذ بك من مضلاّت الفتن".
وأخبرنا إبن منجويه قال: حدّثنا عمر بن الخطاب قال: حدّثنا عبد اللّه بن الفضل قال: حدّثنا أَبُو خثمه قال: حدّثنا زيد بن حباب قال: حدّثنا حسين بن واقد قاضي مرو قال: حدثني عبد اللّه بن بريدة عن أبيه قال:
"كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يخطب فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يعثران، فنزل النّبي (عليه السلام) اليهما فأخذهما فوضعهما في حجره على المنبر فقال: صدق اللّه { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } رأيت هذين الصبيين فلم أصبر عنهما" ثم أخذ في الخطبة.
{ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } ناسخة لقوله
{ { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [آل عمران: 102] وقد مرّ ذكره.
{ وَٱسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ } مجازه: يكن الإنفاق خيراً لأنفسكم. { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } ومنعها عن الحقّ { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } قال إبن عمر: "ليس الشّح أن يمنع الرجل ماله، وإنّما الشّح أن يطمع الرجل إلى ما ليس له".
{ إِن تُقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ }.
{ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } .