التفاسير

< >
عرض

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١
هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٢
خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ
٣
يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
٤
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٥
ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَقَالُوۤاْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
٦
زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ
٧
فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلنّورِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلْنَا وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
٨
-التغابن

الكشف والبيان

{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } اختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال قوم: إنّ اللّه سبحانه خلق الخلق مؤمنين وكافرين.
قال ابن عبّاس: بدأ اللّه خلق بني آدم مؤمناً وكافراً ثمّ يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمناً وكافراً.
واحتجّوا بحديث الصادق المصدِّق وقوله:
"السعيد من سعد في بطن أمّه والشقي من شقي في بطن أُمّه" .
وكما أخبرنا عبد اللّه بن كامل الأصبهاني قال: أخبرني أَبُو بكر أحمد بن محمد بن يحيى العبدي بنو شيخ قال: حدّثنا أحمد بن نجدة بن العريان قال: حدّثنا المحاملي قال: حدّثنا إبن المبارك عن أبي لهيعة قال: حدّثني بكر بن سوادة عن أبي تميم الحسائي عن أبي ذر عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مكث المني في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس، فعرج به إلى الرّب تبارك وتعالى، فقال: يارب أذكر أم أنثى؟ فيقضي اللّه سبحانه ماهو قاض. أشقيٌ أم سعيد؟ فيكتب ما هو لاق" وقرأ أَبُو ذر من فاتحة التغابن خمس آيات".
وأخبرنا عبد الخالق قال: أخبرنا إبن حبيب قال: حدّثنا إبراهيم بن إسماعيل السيوطي قال: حدّثنا داود بن المفضل قال: حدّثنا نصر بن طريف قال: أخبرنا قتادة عن أبي حسان الأعرج عن ناجية بن كعب عن عبد اللّه بن مسعود قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم
"خلق اللّه سبحانه فرعون في بطن أُمّه كافراً، وخلق يحيى بن زكرّيا في بطن أُمّه مؤمناً" .
وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "إنّ الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً" .
وقال اللّه سبحانه { { وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } [نوح: 27].
إنّ اللّه سبحانه خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا. قالوا وتمام الكلام عند قوله: { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ } ثم وصفهم { فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } وهو مثل قوله:
{ { وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ } [النور: 45] الآية، قالوا: فاللّه خلقهم والمشي فعلهم، وهذا اختيار الحسن ابن الفضل.
قالوا: أو خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفه بفعلهم في قوله: { فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } الكفر فعل الكافر، والإيمان فعل المؤمن.
واحتجّوا بقوله سبحانه:
{ { فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا } [الروم: 30] وبقوله: "كل مولود يولد على الفطرة" ، وقوله حكايةً عن ربّه: "إنّي خلقت عبادي كلّهم حنفاء" ونحوها من الأخبار، ثم اختلفوا في تأويلها، فروى أَبُو الجوزاء عن إبن عبّاس قال: «فمنكم مؤمن يكفر، ومنكم كافر يؤمن».
وقال أَبُو سعيد الخدري: «فمنكم كافر حياته مؤمن في العاقبة، ومنكم مؤمن حياته كافر في العاقبة»، وقال الضحاك: فمنكم كافر في السّر مؤمن في العلانية كالمنافق، ومنكم مؤمن في السّر، كافر في العلانية كعمّار وذويه. فمنكم كافر باللّه مؤمن بالكواكب، ومنكم مؤمن باللّه كافر بالكواكب، يعني في شأن الأنوار.
قال الزجّاج: وأحسن ما قيل فيها { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ } بأنّ اللّه خلقه، وهو مذهب أهل الدهر والطبائع. { وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } بأنّ اللّه خلقه.
وجملة القول في حكم هذه الآية ومعناها والذّي عليه جمهور الأُمّة والأَئمة والمحقّقون من أهل السُنّة هي أنّ اللّه خلق الكافر وكفره فعلا له وكسباً، وخلق المؤمن وإيمانه فعلا له وكسباً، فالكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق اللّه سبحانه إيّاه؛ لأنّ اللّه سبحانه وتعالى قدّر عليه ذلك وعَلِمَهُ منه، والمؤمن يؤمن ويختار الإيمان بعد خلق اللّه تعالى إيّاه؛ لأنّ اللّه سبحانه أراد ذلك منه وقدّره عليه وعَلِمَهُ منه، ولا يجوز أن يوجد من كلّ واحد منهم غير الذي قدّره اللّه عليه وعلمه منه، لأنّ وجود خلاف المقدور عجز، وخلاف المعلوم جهل، وهما لا يليقان باللّه تعالى، ولا يجوزان عليه، ومن سلك هذا السبيل سَلِمَ من الجبر والقدر فأصاب الحقّ كقول القائل:

يا ناظراً في الدّين ما الأمرلا قدرٌ صحّ ولا جبرُ

وقد أخبرنا أَبُو علي زاهر بن أحمد العمدة السرخسي قال: حدّثنا عبد اللّه بن مبشر الواسطي قال: حدّثنا أحمد بن منصور الزّيادي قال: سمعت سيلان يقول: قدم أعرابي البصرة فقيل له: ما تقول في القدر؟ قال: أمر تغالت فيه الظنون، واختلف فيه المختلفون، فالواجب علينا أن نردّ ما أشكل علينا من حكمه إلى ما سبق من علمه.
{ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } { يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } يعني الأُمم الخالية { فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } { ذَلِكَ } العذاب. { بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَقَالُوۤاْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } لأنّ البشر وإن كان لفظه واحد فإنّه في معنى الجمع وهو اسم الجنس وواحده إنسان ولا واحد له من لفظه.
{ فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ } عن إيمانهم { وَٱللَّهُ غَنِيٌّ } عن خلقه، { حَمِيدٌ } في أَفعاله.
{ زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ } يا محمّد { بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ }.
{ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلنّورِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلْنَا } وهو القرآن.
{ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }.