التفاسير

< >
عرض

عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً
٥
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ
٦
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ ٱلْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٧
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَٱغْفِرْ لَنَآ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٨
يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَاهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَافِقِينَ وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
٩
ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمْرَأَتَ نُوحٍ وَٱمْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ٱدْخُلاَ ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّاخِلِينَ
١٠
وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ٱبْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي ٱلْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ
١١
وَمَرْيَمَ ٱبْنَتَ عِمْرَانَ ٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَانِتِينَ
١٢
-التحريم

الكشف والبيان

{ عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ } داعيات، وقيل: مُصليات.
{ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ } يُسحَن معه حيث ما ساح، وقيل: صائمات.
وقال زيد بن أسلم وأبنهُ ويمان: مهاجرات.
{ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } والآية واردة في الإخبار، عن القدرة لا عن الكون في الوقت؛ لأنهُ تعالى قال: { إِن طَلَّقَكُنَّ } وقد علِمَ أنّهُ لا يطلقهنّ، وهذا قوله
{ { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم } [محمد: 38] فهذا إخبار عن القدرة وتخويف لهم، لا أن في الوجود من هو خير من أمة محمد صلى الله عليه وسلم { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } يعني: مروهم بالخير، وانهوهم عن الشر وعلّموهم وأدنوهم تقوهم بذلك ناراً { وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ } فظاظ { شِدَادٌ } أقوياء لم يخلق اللّه فيهم الرّحمة، وهم الزبانية التسعة عشر وأعوانهم من خزنه النّار.
{ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ ٱلْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً } قراءة العامة بفتح النون على نعت التوبة.
وروى حماد ويحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم بضمِّهِ على المصدر، وهي قراءة الحسن.
قال المبرّد: أراد توبة ذات نصح، واختلف المفسِّرون في معنى التوبة النّصوح.
وقال عُمَر وأُبي ومعاذ: التوبة النصوح أنْ يتوب ثم لا يعود إلى الذنب، كما لا يعود اللبن إلى الضرع، ورفعهُ معاذ.
وقال الحسن: هي أنْ يكون العبد نادماً على ما مضى، مجمعاً على أنْ لا يعود فيه.
الكلبي: أن يستغفر باللسان، ويندمُ بالقلب، ويمسك بالبدن.
قال قتادة: هي الصادقة الناصحة.
سعيد بن جبير: هي توبة مقبولة، ولا تقبل مالم يكن فيها ثلاث: خوف أن لا تُقبل، ورجاء أن تقبل، وإدمان الطاعات.
سعيد بن المسيّب: توبة تنصحون بها أنفسكم.
القرظي: تجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان، والأقلاع بالأبدان، وإظهار ترك العود بالجَنان، ومهاجرة سيّئ الخلاّن.
سفيان الثوري: علامة التوبة النّصوح أربع: القلّة، والعلة، والذلة، والغربة.
فضيل بن عياض: هي أن يكون الذنب نصب عينيه، ولا يزال كأنّهُ ينظرُ إليه.
أَبُو بكر محمد بن موسى الواسطي: هي توبة لا لعقد عوض؛ لأن من أذنب في الدنيا لرفاهيّة نفسه، ثم تاب طلباً لرفاهيتها في الآخرة فتوبته على حظ نفسه لا لله. أَبُو بكر الورّاق: هي أن تضيق عليك الأرض بما رحبت، وتضيق عليك نفسك كتوبة الثلاثة الذين خلِّفوا.
أَبُو بكر الرقاق المصري: ردّ المظالم واستحلال الخصوم، وإدمان الطاعات. رويم الرّاعي: هو أن تكون للّه وجهاً بلا قفاً كما كنت لهُ عند المعصية قفاً بلا.
رابعة: توّبة لابيات منها. ذو النون: علامتها ثلاث: قلة الكلام وقلة الطعام وقلة المنام.
سقيق: هي أن يكثر صاحبها لنفسه الملامة، ولا ينفك من الندّامة، لينجو من آفاتها بالسّلامة.
سري السقطي: لا تصح التوبة النصوح إلاّ بنصحة النفس من المؤمنين؛ لأن مَن صحت توبته أحب أن يكون النّاس مثله.
الجنيد: هي أَن ينسى الذنب فلا يذكره أبداً؛ لأن من صحت توبته صار محبّاً للّه، ومن أَحب اللّه نسي ما دون اللّه.
سهل: هي توبة أهل السُنّة والجماعة لأنّ المبتدع لا توبة له، بدليل قوله صلّى اللّه عليه وسلم:
"حجب اللّه على كل صاحب بدعة أن يتوب" .
أَبُو الأَديان: هي أَن يكون لصاحبها دمع سفوح، وقلب عن المعاصي جموع، فاذا كان ذلك فإنّ توبته نصوح، وأمارات التوبة منه تلوح.
فتح الموصلي: علامتها ثلاث: مخالفة الهوى، وكثرة البكاء، ومكابدة الجوع والظماء.
{ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ } على الصراط.
{ يَقُولُونَ } إذا طفئ نور المنافقين.
{ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَٱغْفِرْ لَنَآ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَاهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَافِقِينَ وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } ثمّ ضرب مثلا للصالحات، والصالحات من النساء فقال عزّ من قائل: { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمْرَأَتَ نُوحٍ } واسمها واعلة وامرأة لوط واسمها واهلة. وقال مقاتل: والعدو والهة.
{ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا } في الدين، وما بغت امرأة النّبي قط.
قال ابن عبّاس: ليس بخيانة الزّنا وهما (امرأتا) نوح ولوط (عليهما السلام) وإنّما خيانتهما أنّهما كانتا على غير دينهما، فكانت امرأة نوح تخبر النّاس أنّه مجنون وتُطلع على سرّه، فاذا آمنَ بنوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به. وأمّا امرأة لوط فكانت تدلّ قومه على أضيافه.
{ فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا } مع توبتهما { مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ٱدْخُلاَ ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّاخِلِينَ } يخوّف عائشة وحفصة رضي اللّه عنهما.
{ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ } وهي آسية بنت مزاحم.
قال المفسرون: لمّا غلب موسى السحرة آمنت امرأة فرعون فلمّا تبيّن إسلامها وثبتت عليه أوتد يديها ورجليها بأَربعة أَوتاد وأَلقاها في الشمس وأَمر بصخرة عظيمة لتلقى عليها، فلمّا أتوها بالصخرة { إِذْ قَالَتْ رَبِّ ٱبْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي ٱلْجَنَّةِ } وأبصرت بيتها في الجنّة من دُرّة، وانتزع اللّه روحها، فألقيت الصخرة على جسد ليس فيه روح، فلم تجد ألماً من عذاب فرعون.
وقال الحسن وإبن كيسان: رفع اللّه امرأة فرعون إلى الجنّة فهي فيها تأكل وتشرب.
أخبرنا محمد بن عبد اللّه بن حمدون، أخبرنا علي بن عبدان، حدّثنا أَبُو الأزهر، حدّثنا أسباط عن سُليمان عن أبي عثمان عن سلمان قال: كانت امرأة فرعون تعذّب بالشمس، وإذا انصرفوا عنها أظلّتها الملائكة وجعلت ترى بيتها في الجنّة.
{ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ } أي دينه.
أخبرنا عبد اللّه بن حامد، أخبرنا أحمد بن محمد بن أبي سعيد، حدّثنا علي بن حرث، حدّثنا أَبُو المنذر هشام بن محمد عن أبي صالح عن إبن عبّاس في قول اللّه تعالى { وَنَجِّنِي مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } الكافرين، قطع اللّه بهذه الآية طمع من ركب المعصية ورجا أن ينفعه صلاح غيره، وأخبر أنّ معصية الغير لا تضرّه إذا كان مطيعاً.
{ وَمَرْيَمَ ٱبْنَتَ عِمْرَانَ ٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } أي في درعها، لذلك ذكر الكناية.
{ وَصَدَّقَتْ } قراءة العامّة بالتشديد، وقرأ لاحق بن حميد بالتخفيف.
{ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا } قراءة العامّة بالجمع.
وقرأ الحسن وعيسى والجحدري: الكلمة على الواحد يعنون عيسى(عليه السلام) { وَكُتُبِهِ } قرأ أَبُو عمر ويعقوب: وكتبه، على الجمع، وهي رواية حفص عن عاصم واختيار أبي حاتم قال: لأنّها أَعم.
وقرأ الباقون: و{ وكتابه }، على الواحد وهي اختيار أبي عبيد.
{ وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَانِتِينَ } المطيعين، مجازه: من القوم العابدين، ولذلك لم يقل قانتات، نظيره
{ { يٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِي لِرَبِّكِ } [آل عمران: 43].
أخبرنا الحسن بن محمد، حدّثنا أحمد بن محمّد بن اسحاق السني ومحمد بن المظفّر قالا: حدّثنا علي بن أحمد بن سليمان، حدّثنا موسى بن سابق، حدّثنا إبن وهب أخبرني الماضي ابن محمد عن بردة عن مكحول عن معاذ بن جبل:
"أنّ النبّي صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة وهي تجود بنفسها فقال: أكره ما نزل بك يا خديجة وقد جعل اللّه في الكره خيراً كثيراً، فإذا قدمت على ضرّاتك فأقرئيهنّ منّي السلام. قالت: يا رسول اللّه من هنّ؟ قال: مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكليمة أو حليمة أُخت موسى. شكَّ الراوي، فقالت: بالرفاه والبنين" .
أخبرنا الحسن بن محمد، حدّثنا عبد اللّه بن محمد بن شيبة، حدّثنا عبيد اللّه أحمد بن منصور الكسائي، حدّثنا محمد بن عبد الجبار المعروف بسندول الهمداني، حدّثنا أَبُو أُسامة عن شعبة عن عمرو بن مرّة عن أبي موسى قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلاّ أربع: آسية بنت مُزاحم امرأة فرعون، ومريم أبنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وفضل عائشة على النّساء كفضل الثريد على سائر الطعام" .