التفاسير

< >
عرض

فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ
٥
بِأَييِّكُمُ ٱلْمَفْتُونُ
٦
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ
٧
فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذِّبِينَ
٨
وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ
٩
وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ
١٠
هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ
١١
مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ
١٢
عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ
١٣
أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ
١٤
إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ
١٥
سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ
١٦
-القلم

الكشف والبيان

{ فَسَتُبْصِرُ } فسترى يا محمد { وَيُبْصِرُونَ } ويرون يعني الذين رموه بالجنون. { بِأَييِّكُمُ ٱلْمَفْتُونُ } اختلف المفسرون في معنى الآية ووجهها، فقال قوم: معناه بأيّكم المجنون، وهو مصدر على وزن المفعول كما يقال: ما لفلان مجنون ومعقود ومعقول أي جلادة وعقد وعقل، قال الشاعر:

حتّى إذا لم يتركوا لعظامهلحماً ولا لفؤاده معقولا

أي عقلا، وهذا معنى قول الضحاك: ورواية العوفي عن ابن عباس.
وقيل: الباء بمعنى في مجازه: فستبصر ويبصرون في أي الفريقين المجنون في فريقك يا محمد أو في فريقهم.
والمفتون: المجنون الذي فتنه الشيطان. وقيل: تأويله بأيّكم المفتون وهو الشيطان، وهذا معنى قول مجاهد.
وقال آخرون: معناه: أيّكم المفتون والباء زائدة لقوله تعالى:
{ { تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ } [المؤمنون: 20] و { { يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ } [الإنسان: 6] وهذا قول قتادة والأخفش [وأبي عبيد].
وقال الراجز:

نحن بنو جعدة أصحاب الفلجنضرب بالسيف ونرجوا بالفرج

{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ * فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذِّبِينَ } فيما دعوك عليه من دينهم الخبيث، نزلت في مشركي قريش حين دعوه إلى دين آبائه، { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } قال عطية والضحاك: لو تكفر فيكفرون.
وقال ابن عباس: برواية الوالبي لو ترخص فيرخصون، قال الكلبي: لو تلن لهم فيلينون، الحسن: لو تصانعهم دينك فيصانعون في دينهم، زيد بن مسلم: لو تنافق وترائي فينافقون، أبان ابن تغلب: لو تحابهم فيحابوك، وقال العوفي: لو تكذب فيكذّبون، عوف عن الحسن: لو ترفض بعض أمرك فيرفضون بعض أمرهم، ابن كيسان: لو تقاربهم فيقاربوك.
{ وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ } كثير الحلف بالباطل يعني: الوليد بن المغيرة وقيل: الأسود بن عبد يغوث، وقيل: الأخفش بن شديق. { مَّهِينٍ } ضعيف حقير.
وقال ابن عباس: كذّاب وهو قرين منه؛ لأنّ الرجل إنّما يكذّب لمهانة نفسه عليه. وقال قتادة: المكثار في الشر. { هَمَّازٍ } مغاتب يأكل لحوم الناس. وقال الحسن: هو الذي يعيب ناحية في المجلس لقوله: همزة. { مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ } قتادة: يسعى بالنميمة يفسد بين الناس.
{ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ } قال ابن عباس: يعني للإسلام يمنع ولده وعشيرته من الإسلام ويقول: لأن دخل واحد منكم في دين محمد لا انفعه بشيء أبداً. وقال الآخرون: يعني بخيل بالمال ضنين به عن الحقوق.
{ مُعْتَدٍ } غشوم ظلوم. { أَثِيمٍ } فاجر.
{ عُتُلٍّ } قال ابن عباس: العتل: الفاتك الشديد المنافق. وقال عبيد بن عمير: العتلّ الأكول الشروب القويّ الشديد يوضع في الميزان فلا يزن شعره، يدفع الملك من أولئك سبعين ألف دفعة.
وقال عليّ والحسن: العتلّ: الفاحش الخلق السيّيء الخلق. وقال يمان: هو الجافي القاسي اللئيم العشرة. وقال مقاتل: الضخم. وقال الكلبي: هو الشديد في كفره، وكلّ شديد عند العرب عتلّ وأصله من العَتل وهو الدفع بالعنف.
{ بَعْدَ ذَلِكَ } أي مع ذلك { زَنِيمٍ } وهو الدعي الملحق النسب الملصق بالقوم وليس منهم. قال الشاعر:

زنيم تداعاه الرجال زيادةكما زيد في عرض الأديم الأكارعِ

وقال حسّان بن ثابت:

وأنت دعي نيط في آل هاشمكما نيط خلف الراكب القدح الفرد

وقال آخر:

زنيم ليس يعرف مَنْ أبوهبغي الام ذو حسب لئيم

فقال مرّة الهمداني: إنّما ادّعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة، هذا قول أكثر المفسرين.
وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: الزنيم: الذي لا أصل له. وقيل: هو الذي له زنمة كزنمة الشاة.
روى عكرمة عن ابن عباس قال: في هذه الآية الكريمة نعت فلم يعرف حتّى قيل زنيم فعرف، وكانت له زنمه في عنقه يعرف بها. وقال عكرمة: الزنيم: المعروف [بلؤمه] كما تعرف الشاة بزنمتها. وقال الشعبي: هو الذي له علامة في [الشر] تعرف كما تعرف الشاه بزنمتها. وقال القرطبي وسعيد بن جبير و[عكرمة]: هو الكافر الهجين المعروف بالشرّ المريب.
وقال الوالبي عن ابن عباس: الزنيم: الظلوم.
أخبرنا أبو عبد الله ابن فنجويه حدّثنا أبو بكر بن مالك القطيفي حدّثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل حدثني أبي حدّثنا وكيع حدّثنا عبد الحميد عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن عمر قال:
"سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العتلّ الزنيم فقال: هو الشديد الخُلق المصحح الأكول الشروب الواجد للطعام والشروب الظلوم للناس رحيب الجوف" .
أخبرنا ابن فنجويه حدّثنا محمد بن الحسن بن عليّ القطيفي حدّثنا أحمد بن عبد الله بن رزين العقيلي حدّثنا صفوان بن صالح حدّثنا الوليد بن مسلم حدثني أبو شيّة إبراهيم بن عثمان عن عثمان بن عمير عن شهر بن حوشب عن سداد بن أوس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنّة جواظ ولا جعظري ولا عتل ولا زنيم قال: قلت: فما الجواظ؟
قال: كلّ جمّاع منّاع.
قلت: فما الجعظوي؟
قال: الفظ الغليظ.
قلت: فما العتل الزنيم؟
قال: كلّ رحب الجوف بئر الحلق أكول شروب غشوم ظلوم"
.
أخبرنا ابن فنجويه حدّثنا ابن حبش المقري حدّثنا ابن زنجويه حدّثنا سلمة حدّثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم في قوله: { زَنِيمٍ } قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تبكي السماء من رجل أصحّ الله جسمه وأرحب جوفه، وأعطاه من الدنيا مقضماً في المصدر بعضاً فكان للناس ظلوماً، فذلك العتل الزنيم، قال: وتبكي السماء من الشيخ الزاني ما تكاد الأرض تقلّه" .
وروي الثمالي عن مجاهد في الزنيم قال: كانت له ست أصابع في يده في كل إبهام له أصبع زائدة. وأكثر العلماء على أن الزنيم الدعي الشرير، وقد ورد في هذا الباب أخبار غرائب نذكر من بعضها وبالله التوفيق:
أخبرنا الحسن بن محمد بن الحسين بن عبد الله المقري حدّثنا محمد بن الحسن بن بشير حدّثنا ابن خوصا، أخبرنا ابن خنيق حدّثنا يوسف بن أسباط عن أبي إسرائيل الملائي، عن فضيل ابن عمر والفقمي عن مجاهد عن ابن عمر عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:
"لا يدخل الجنّة ولد زنى ولا ولده ولا ولد ولده" .
أخبرنا الحسين بن محمد حدّثنا محمد بن الحسن بن بشر، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد الطواسعي، حدّثنا أبو بدر عباد بن الوليد حدّثنا حيّان بن هلاك حدّثنا حماد بن سلمة، عن عليّ بن زيد بن عياض عن عيسى بن حطان عن عبد الله بن عمر أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ أولاد الزنى يُحشرون يوم القيامة في صورة القردة والخنازير" .
أخبرنا الحسن بن محمد، حدّثنا أبو بكر بن مالك القطيعي، حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدّثني أبي، حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الرازي، حدّثنا سلمة بن الفضل حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان عن محمد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن أبي رافع عن ميمونة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال أمّتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنى فإذا فشا فيهم ولد الزنى فيوشك أن يعمّهم الله تعالى بعقاب" .
أخبرنا الحسن بن محمد حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي حدّثنا إبراهيم بن الحسن الآدمي حدّثنا أبو أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي حدّثنا سعيد بن أوس حدّثنا أبو الأشهب هو العطاردي قال: سمعت عكرمة يقول: إذا كثر أولاد الزنى قلّ المطر.
{ أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ } قرأ أبو جعفر وابن عامر ويعقوب { أَن } بالمد واختاره أبو حاتم وقرأ حمزة وعاصم برواية أبي بكر { أَن } بهمزتين، وغيرهم بالجرّ.
فمن قرأ بالاستفهام فله وجهان: أحدهما: الآن كان ذا مال وبنين { إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ }، والآخر: الآن كان ذا مال وبنين تطيعه. ومن قرأ على الخبر فمعناه: فلا تطع لأيّ كان.