التفاسير

< >
عرض

إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ
١٧
وَلاَ يَسْتَثْنُونَ
١٨
فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ
١٩
فَأَصْبَحَتْ كَٱلصَّرِيمِ
٢٠
فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ
٢١
أَنِ ٱغْدُواْ عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ
٢٢
فَٱنطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ
٢٣
أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ٱلْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ
٢٤
وَغَدَوْاْ عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ
٢٥
فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوۤاْ إِنَّا لَضَآلُّونَ
٢٦
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ
٢٧
قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ
٢٨
قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ
٢٩
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ
٣٠
قَالُواْ يٰوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ
٣١
عَسَىٰ رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ
٣٢
كَذَلِكَ ٱلْعَذَابُ وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
٣٣
إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ
٣٤
أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ
٣٥
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
٣٦
أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ
٣٧
إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ
٣٨
أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ
٣٩
سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ
٤٠
أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ
٤١
-القلم

الكشف والبيان

{ سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ } قال ابن عباس: سنخطمه بالسيف فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه قال: فقاتل يوم بدر: فخطم بالسيف بالقتال، وقال قتادة: سنخلق به شيئاً، يقول العرب للرجل يسبّ الرجل سبّة قبيحة باقية: قد وسمه ميسم سوء، يريدون الصق به عاراً لا يفارقه، كما أنّ السمة لا تنمحي ولا يعفو أثرها. قال جرير:

لما وضعت على الفرزدق ميسميوعلى البعيث جدعت أنف الأخطل

أراد به الهجاء.
وقال أبو العالية ومجاهد: سنسمه على أنفه ونسوّد وجهه فنجعل له علامة في الآخرة يعرف سواد وجهه، الضحاك والكسائي: يشكونه على وجهه. وقال حريز بن محمد بن جرير: سنبين أمره بياناً واضحاً حتى يعرفوه ما يخفى عليهم كما لا تخفى السمة على الخراطيم. قال الفرّاء: وإن كان الخرطوم قد خص بالسمة فإنّه في مذهب الوجه. لأنّ بعض الشيء يعبّر به عن كله، وقد مرّ هذا الباب.
قال النضر بن شميل: معناه سنحدّه على شربه الخمر، والخرطوم: الخمر وجمعه خراطيم. وقال الشاعر:

تظل يومك في لهو وفي طربوأنت بالليل شرّاب الخراطيم

قوله: { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ } يعني اختبرنا وامتحنّا أهل مكّة بالقحط والجوع. { كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ }.
أخبرنا أبو عمرو الفرابي أخبرنا أبو موسى أخبرنا الحريري حدّثنا فارس بن عمر حدّثنا صالح بن محمد حدّثنا محمد بن مزوان عن الكليني عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ } قال: بستان باليمن يقال لها القيروان دون صنعاء بفرسخين، يطأه أهل الطريق، وكان غرسه قوم من أهل الصلاة، وكانت لرجل فمات فورثه بنين له، فكان يكون للمساكين إذا صرموا نخلهم كل شيء تعداه المنجل فلم تجدّه، فإذا طرح من فوق المنجل أملى البساط، فكل شيء يسقط على البساط فهو أيضاً للمساكين، فإذا حصدوا زروعهم فكل شيء تعدّاه المنجل فهو للمساكين، وإذا داسوا كان لهم كل شيء ينثر، فلما مات الأب ورثها هؤلاء الأخوة عن أبيهم، فقالوا: والله إنّ المال لقليل وإنّ العيال لكثير إنّما كان يفعل هذا الأمر إذا كان كثيراً والعيال قليلا، فأمّا إذا قلّ المال وكثر العيال فإنّا لا نستطيع أن نفعل هذا، فتحالفوا بينهم يوماً ليعدون عدوة قيل خروج الناس فليصرمن نخلهم ولم يستثنوا لم يقولوا إن شاء الله فغدا القوم بسدف من الليل إلى جنّتهم ليصرموها فرأوها مسودّة، وقد طاف عليها من الليل طائف من عذاب أصابها فأحرقها فأصبحت كالصريم فذلك قوله تعالى: { إِذْ أَقْسَمُواْ } حلفوا، { لَيَصْرِمُنَّهَا } لتجدّيها ولتقطيع ثمرها، { مُصْبِحِينَ } إذ أصبحوا قبل أن يعلم المساكين، { وَلاَ يَسْتَثْنُونَ } لا يقولون إن شاء الله، { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ } عذاب { مِّن رَّبِّكَ } ولا يكون الطائف إلاّ بالليل، وكان ذلك الطائف ناراً أنزلت من السماء فأحرقتها. { وَهُمْ نَآئِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَٱلصَّرِيمِ } كالليل المظلم الأسود، قال الشاعر:

تطاول ليلك الجون البهيمفما ينجاب عن صبح صريم

وقال الحسن: صرم عنها الخير فليس فيها شيء، ابن كيسان: كالجرة السوداء، ابن زيد: كالأرض المصرومة، الأخفش: كالصبح انصرم من الليل، وقال المروّج: كالرملة انصرمت من معظم الرمل، وأصل الصريم: المصروم، وكلّ شيء قطع من شيء فهو صريم، فالليل صريم والصبح صريم، لأنّ كلّ واحد منهما ينصرم عن صاحبه. قال ابن عباس: كالرماد الأسود بلغة حذيم.
{ فَتَنَادَوْاْ } نادى بعضهم بعضاً { مُصْبِحِينَ * أَنِ ٱغْدُواْ عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَٱنطَلَقُواْ } فمضوا إليها { وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ } يتشاورون يقول بعضهم لبعض: { أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ٱلْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ * وَغَدَوْاْ عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ }.
قال ابن عباس: على قدرة قادرين في أنفسهم. وقال أبو العالية والحسن: على جد وجهد. وللنخعي والقرطبي ومجاهد وعكرمة: على أمر مجتمع قد أسّسوه بينهم. وروى معمر عن الحسن قال: على فاقة، وقيل: على قوّة، وقال السدي: الحرد: اسم الجنّة. وقال سفيان: على حنق وغضب، ومنه قول الأشهب بن رملة:

أسود شرى لاقت أسود خفيةتساقوا على حرد دماء الأساود

وفيه لغتان حرّد وحَرَد، مثل الدرّك والدرك، وقال أبو عبيدة والقتيبي: على منع والحرد، والمحاردة: المنع، تقول العرب: حاردت السنة، إذا لم يكن فيها مطر، وحاردت الناقة إذا لم يكن لها لبن.
قال الشاعر:

فإذا ما حاردت أو بكأتفت عن حاجب أخرى طينها

وقيل: على قصد، قال الراجز:

وجاء سيل كان من أمر اللهيحرد حرد الجنّة المغلة

وقال آخر:

إمّا إذا حردت حردي فمجريةضبطاء تسكن غيلا غير مقروب

{ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوۤاْ إِنَّا لَضَآلُّونَ } لمخطئوا الطريق فليس هذه بجنتنا. فقال بعضهم: { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } حرمنا خيرها ونفعها لمنعنا المساكين وتركنا الإستثناء { قَالَ أَوْسَطُهُمْ } أعدلهم وأعقلهم وأفضلهم، { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } هلاّ تستثنون، قال أبو صالح: إستثناءهم: سبحان الله. وقيل: هلا تسبحون الله وتقولون: سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم. وقيل: هلاّ تستغفرونه من فعلكم.
{ قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ } ننزهه على أن يكون ظالماً، وأقرّوا على أنفسهم بالظلم فقالوا: { إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ * قَالُواْ يٰوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ } في منعنا حقّ الفقراء وتركنا الاسثناء، وقال ابن كيسان: طغينا نعم الله فلم نشكرها.
{ عَسَىٰ رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ }، قرأ الحسن وعاصم والأخفش وابن محيص بالتخفيف، وغيرهم بالتشديد، وهما لغتان وفرق قوم بينهما، فقال: التبديل تغيير الشيء أو تغيير حاله وعين الشيء قائم، والابدال رفع الشيء ووضع شيء آخر مكانه.
قال عبد الله بن مسعود: بلغني أنّ القوم أخلصوا وعرف الله تعالى منهم الصدق، فأبدلهم بها جنّة يقال لها: الحيوان، فيها عنب يحمل البغل منها عنقوداً. وقال بكر بن سهل الدمياطي: حدّثني أبو خالد اليمامي أنه رأى تلك الجنّة، وقال: رأيت كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم.
{ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ ٱلْعَذَابُ } أي كفعلنا بهم نفعل بمن تعدّى حدودنا وخالف أمرنا.
{ وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ } نزل من عند الله سبحانه وتعالى. { فِيهِ تَدْرُسُونَ } تقرؤون ما فيه. { إِنَّ لَكُمْ فِيهِ } في ذلك الكتاب { لَمَا تَخَيَّرُونَ } تختارون وتشتهون { أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ } عهود ومواثيق { عَلَيْنَا بَالِغَةٌ } كما عهدناكم علمه ووعدناكم فاستوثقتم بها منا، فلا ينقطع عهدكم { إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ } كسر { أَن } لدخول اللام فيه في ذلك العهد. { لَمَا تَحْكُمُونَ } تقضون وتريدون فيكون لكم حكمكم. { سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ } الذي ذكرت { زَعِيمٌ } كفيل، والزعيم: الرسول هاهنا قاله الحسن وابن كيسان قائم بالحجة والدعوى { أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ } أرباب تفعل هذا. وقيل: شهداء يشهدون لهم بصدق ما يدّعونه.
{ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ }.