التفاسير

< >
عرض

سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ
١
لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ
٢
مِّنَ ٱللَّهِ ذِي ٱلْمَعَارِجِ
٣
تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ
٤
فَٱصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً
٥
إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً
٦
وَنَرَاهُ قَرِيباً
٧
يَوْمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلْمُهْلِ
٨
وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ
٩
وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً
١٠
-المعارج

الكشف والبيان

{ سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } قرأ أهل المدينة والشام سأل بغير همز، وقرأ الباقون بالهمز واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، فمن قرأه بالهمز فهو من السؤال لا غير وله وجهان: أحدهما أن تكون الباء في قوله { بِعَذَابٍ } بمعنى عن كقوله سبحانه: { { فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } [الفرقان: 59] أي عنه، وقال علقمة بن عبدة:

فإن تسألوني بالنساء فانّيبصير بأدواء النساء طبيب

أي عن النساء.
ومعنى الآية: سأل سائل عن عذاب واقع نازل: على من ينزل؟ ولمن هو؟ فقال الله سبحانه مجيباً له:
{ لِّلْكَافِرِينَ } وهذا قول الحسن وقتادة قالا: كان هذا بمكّة، لما بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم إليهم وخوّفهم بالعذاب والنكال، قال المشركون بعضهم لبعض: من أهل هذا العذاب اسألوا محمداً لمن هو وعلى مَنْ ينزل وبمَنْ يقع، فبيّن الله سبحانه وأنزل سأل سائل عذاباً واقعاً للكافرين أي على الكافرين، اللام بمعنى على، وهو النضر بن الحرث حيث دعا على نفسه وسأل العذاب فقال: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ لأنّه نزل به ما سأل يوم بدر، فقتل صبراً ولم يقتل من الأسرى يومئذ غيره وغير عقبه بن أبي معيط، وهذا قول ابن عباس ومجاهد، وسئل سفيان بن عيينة عن قول الله سبحانه: { سَأَلَ سَآئِلٌ } فيمن نزلت، فقال: لقد سألتني عن مسألة ما سألني أحد قبلك.
حدّثني أبي عن جعفر بن محمد عن آبائه، فقال:
"لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير خم، نادى بالناس فاجتمعوا، فأخذ بيد عليّ رضي الله عنه فقال: مَنْ كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه.
فشاع ذلك وطار في البلاد، فبلغ ذلك الحرث بن النعمان القهري فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة له حتّى أتى الأبطح، فنزل عن ناقته وأناخها وعقلها، ثمّ أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو في ملأ من أصحابه فقال: يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّك رسول الله فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصلّي خمساً فقبلناه منك، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا، وأمرتنا بالحجّ فقبلنا، وأمرتنا أن نصوم شهراً فقبلنا، ثمّ لم ترض بهذا حتّى رفعت بضبعي ابن عمّك ففضلته علينا وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شيء منك أم من الله تعالى؟
فقال: والّذي لا إله إلاّ هو هذا من الله فولّى الحرث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول: اللهمّ إن كان ما يقوله حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم، فما وصل إليها حتّى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله، وأنزل الله سبحانه: { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ }"
.
ومَنْ قرأ بغير همز فله وجهان: أحدهما أنّه لغة في السؤال، تقول العرب: سأل سائل وسأل سال مثل نال ينال، وخاف يخاف، والثاني: أن يكون من السيل، قال زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، سال واد من أودية جهنم يقال له سائل.
{ مِّنَ ٱللَّهِ ذِي ٱلْمَعَارِجِ }. قال ابن عباس: يعني ذي السماوات، وقال ابن كيسان: المعارج الفتق الذي بين سمائين وأرضين، قتادة: ذي الفواصل والنعم، سعد بن جبير: ذي الدرجات، القرطبي: ذي الفضائل العالية، مجاهد: معارج الملائكة.
{ تَعْرُجُ } بالياء الكسائي وهي قراءة ابن مسعود واختيار أبي عبيد، وغيرهم بالتاء { ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ } هو جبريل { إِلَيْهِ } إلى الله عزّوجلّ { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } من سنين الدنيا، لو صعد غير الملائكة وذلك أنّها تصعد من منتهى أمر الله من أسفل الأرض السابعة إلى منتهى أمره من فوق السماء السابعة.
وروى ليث عن مجاهد { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال: من منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق السموات مقدار خمسين ألف سنة و{ يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } يعني بذلك نزول الأمر من السماء إلى الأرض ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد فذلك مقدار ألف سنة؛ لأنّ ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار: لو سار بنو آدم من الدنيا إلى موضع العرش ساروا خمسين ألف سنة قبل أن يقطعوه.
وقال الحكم بن عكرمة: هو مدة عمر الدنيا من أولها إلى آخرها، خمسون ألف سنة لا يدري أحد كم مضى وكم بقي إلاّ الله. وقال قتادة: هو يوم القيامة.
وقال الحسن: هو يوم القيامة وليس يعني أن مقدار طوله هو دون عمره، ولو كان ذلك لكانت له غاية نعني فيها الجنة والنار، ولكنّه يوم موقفهم للحساب، حتّى يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدنيا، وذلك أنّ ليوم القيامة أولا وليس له آخر. لأنّه يوم ممدود ولو كان له آخر كان منقطعاً.
وقيل: معناه لو ولى محاسبة العباد في ذلك غير الله لم يفرغ منه في خمسين ألف سنة، وهي رواية محمد بن الفضيل عن الكلبي قال: يقول: لقد لو وليت حساب ذلك اليوم الملائكة والجن والإنس وطالت محاسبتهم لم يفرغوا منه في خمسين ألف سنة، وأنا أفرغ منه في ساعة من النهار.
وقال يمان: هو يوم القيامة فيه خمسون موطناً، كل موطن ألف سنة، وفيه تقديم وتأخير، كأنه قال: ليس له دافع من الله في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة يعرج الملائكة والروح إليه.
وروى أبو الجوزاء وابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: هو يوم القيامة جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة فأراد أن أهل الموقف يستطيلون ذلك اليوم.
وأخبرنا ابن فنجويه، قال: حدّثنا القطيعي، قال: حدّثنا عبد الله قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا حسن قال: حدّثنا ابن لهيعة قال: حدّثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال:
"قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ما أطول هذا اليوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إنّه ليخفف على المؤمنين حتّى يكون أخف عليهم من صلاة مكتوبة تصليها في الدنيا" .
وقال إبراهيم التيمي: ما قدر ذلك اليوم على المؤمن إلاّ كما بين الظهر والعصر.
{ فَٱصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ } يعني العذاب { بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً }؛ لأنّ ما هو آت قريب { يَوْمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلْمُهْلِ } كعكر الزيت، وقيل: كالفلز المذاب وقد مرّ تفسيره. { وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ } كالصوف المصبوغ، ولا يقال عهن إلاّ للمصبوغ. وقال مقاتل: كالصوف المنفوش. قال الحسن: كالصوف الأحمر وهو أضعف الصوف، وأوّل ما تتغير الجبال تصير رملاً مهيلاً، ثمّ عهناً منفوشاً، ثمّ تصير هباءً منثوراً.
{ وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } قريب قريباً لشغله بشأن نفسه، وقرأ: ولا يُسئل بضم الياء، أي لا يسأل حميم عن حميم.